كتبت مرح ماشي في صحيفة “الأخبار”:
لم يكن عادياً قبل الحرب السورية أن تجد العديد من الناس يُودِعون موتاهم في أراضي حدائقهم المنزلية، غير أن زيارة ضريح شهيدة الحرس الجمهوري ميرفت سعيد، في إحدى قرى ريف جبلة، تجعل الأمر واقعاً منطقياً يتعايش معه سكان قرية الشهيدة، بل ويفخرون به.
الفتاة التي استشهدت على إحدى نقاط التماس، ضمن مدينة داريا، جنوب العاصمة السورية، برصاصة قنص في رأسها، ترقد بطمأنينة قرب منزل عائلتها، ما يوحي بالسكينة التي لم تعرفها الفتاة ورفيقاتها، مع اشتداد الحرب وتطوعهن في الجيش. أهل الشهيدة لم يعانوا ما يعانيه سوريون آخرون، إذ إنهم دفنوا ابنتهم في أرضهم، ومارسوا طقوس أحزانهم على فقدانها مع أهالي قريتهم، على اعتبار الراحلة البعيدة أضحت قريبة، بشكل ما، تحت نافذة والدتها المطلة على المرقد الحزين.
وطأة الموت تشتد في موسمه الذي لم ينتهِ بعد، ما يزيد من ضيق الأرض والسماء بأبناء البلاد، من غير أي تفريق بين معارض أو موالٍ للنظام، وبين من يقيم في الأراضي التي يسيطر عليها الجيش السوري أو تلك التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة. ومع ازدياد نسبة الموتى في البلاد التي انقلب التوزع السكاني فيها رأساً على عقب، تبلغ الحاجة إلى تأمين المزيد من القبور ملحّة إلى درجة اللجوء إلى توسيع مساحات المقابر، وهو ما تعمل عليه محافظة حمص مثلاً، بهدف تأمين آلاف القبور الجديدة في مقبرة الشهداء، للتخفيف عن عائلاتهم معاناة تأمين مدافن أبنائها.
تنامي الحاجة إلى المزيد من القبور، زاد أسعارها بشكل مبالغ به، بعد ارتفاع عدد السكان في منطقة ما على حساب أُخرى، جراء حركة النزوح الداخلية. الأمر الذي جعل السوريين يستسهلون دفن ذويهم في حدائق المنازل أو مزارعهم الخاصة، بعدما ضاقت 33 مقبرة داخل العاصمة السورية، بـ«الوافدين» الجدد إليها، وفشلت في استيعاب المزيد، ما اضطر «مكتب دفن الموتى» إلى تخصيص أرض كبيرة في منطقة الحسينية، جنوب دمشق، وإنشاء مقبرة جديدة. وفي هذا ما يعزز المثل الشامي القائل: «فوق الموتة عصة قبر!»، ولا سيما في ظل اضطرار البعض لدفن موتاهم الجدد على رفات موتاهم القدامى، بعد فتح القبور، مضطرين إلى استخدامها ذاتها أكثر من مرة.
الأرياف بدت قادرة على استيعاب «المنتقلين إلى رحمته تعالى»، بدلاً من رحمة تجار الحرب أو ظلمهم، بما فيهم تجار الموتى في الزمن السوري الصعب. ففيما يزيد سعر القبر في مدينة دمشق على مليون ليرة سورية، ويصل في مدينة اللاذقية إلى ما يقارب 600 ألف ليرة، بحسب جودة المنزل الأخير، فإن الريف السوري بدا حاضناً أبناءه، في ظل اتساع نسبة الأراضي الجرداء، ما جعل القبر يقدّم لذوي الميت مجاناً. واللافت أن قرار محافظة دمشق جاء خلال سنوات الحرب ليقسّم قبور السوريين إلى درجات، إذ حدد تكلفة الدرجة الممتازة للقبر بـ 12200 ليرة، فيما تجاوز القبر ذو الدرجة الأولى الـ 10 آلاف ليرة، والقبر ذو الدرجة الثانية 9 آلاف ليرة. أما القبر ذو الدرجة الثالثة، والمخصص لمن هم دون عمر 14 عاماً، فقد حدده قرار محافظة دمشق بـ 6 آلاف ليرة. وبحسب ما يعانيه السوريون طبعاً، فإن التكاليف المحددة، وفق القرار المذكور، غير مفعلة على أرض الواقع.
وتتجاوز معاناة السوريين التكاليف الباهظة لأسعار القبور ومتطلبات الوفاة، إلى حد استحالة تنفيذ وصايا ذويهم بدفنهم حيث يرغبون، إذ إن ما كان مطلباً عادياً ومنطقياً قبل الحرب، ليس كما هو خلالها. والحرب التي باعدت بين السوريين، استطاعت أن تحوّل وصايا موتاهم إلى مستحيلات، بحسب إرادة المتحكم في المنطقة والمسيطر عليها عسكرياً. وفي قصة دفن الشهيد أنزور أباظة قبل ثلاثة أعوام ما يشرح هذه المعاناة، إذ إن عضو مجلس الشعب السيدة جانسيت قازان أودعت وزوجها ابنهما الشهيد أرض حديقة منزلها، بسبب استحالة تنفيذ وصيته التي تقضي بدفنه في إحدى مناطق الجنوب السوري، حيث تسيطر الفصائل المسلحة على الطريق إليها. ما حوّل حديقة منزل قازان إلى مدفن لابنها، تمر بمحاذاته يومياً، وتزوره مطوّلاً كل يوم جمعة، تحادثه بينها وبين نفسها، وتصلّي له.