Site icon IMLebanon

عين الحلوة: عندما تتحول الثورة إلى.. ثروة!

 

 

كتبت سعدى علّوه في صحيفة “السفير”:

عندما احتدم التقاتل بين بعض تنظيمات مخيم عين الحلوة في العام 2013، وقفت «أم قاسم حجير» الشهيرة بـ «خنساء فلسطين، عين الحلوة»، في وسط الطريق بين المتقاتلين ورفعت يديها الاثنتين وصرخت «كفى». تلك الـ «كفى» أتبعتها بجملة يتيمة «وفروا دماءكم وشبابكم لقتال إسرائيل». كانت السيدة الوحيدة بين شبان الحراك المدني في المخيم، المعتصم ضد الاقتتال الداخلي.

المرأة السبعينية، التي ولدت قبل النكبة بعامين في فلسطين، لا تعرف غير مغتصب أرضها عدواَ. كانت في الثانية من عمرها عندما استشهد والدها وعمها في الطيرة بفلسطين المحتلة. هُجّرت إلى عين الحلوة مع زوجة أبيها وإخوتها، وتزوجت هناك وصار الحي الذي يقطنه هؤلاء معروفا باسم «الطيرة» التي أتوا منها. في العام 1982، قدمت شهيدها الأول، بكرها قاسم، في معارك التصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان. هي نفسها كانت تخبئ السلاح في سيارة تقودها بعد أن تملأها بالأطفال وتعبر بها الحواجز لتوصلها إلى الفدائيين.

في العام 1985، استشهد حسن، صغير أبنائها، خلال قتاله الإسرائيليين وعملاءهم في شرق صيدا. حزنت «أم قاسم» لكنها اعتبرت أنها تدفع حصتها لتحرير فلسطين. في العام 2013، كان مسعد ابنها الثالث يتكئ على كتف صديقه في أحد شوارع عين الحلوة حين أطلق عليه مجهول النار وأرداه. قبل عامين، اغتيل حفيدها علاء في المخيم نفسه.

اليوم تخط «خنساء عين الحلوة» على دفتر تواريخ استشهاد فلذات أكبادها بخط يدها الآتي: «شهداء الواجب ضد إسرائيل»، و «شهداء غدر الإخوة في المخيم». تكتب لأنها تخشى أن يهزمها العمر، فتتوقف عن سرد حكايا الشهداء لأحفادها.

لنترك «أم قاسم» تروي عن عين الحلوة قبل تحوله إلى «بيت بمنازل كثيرة». «كنا ننام وأبوابنا مفتوحة، نأكل الطبخة مع جيراننا، وكان الرجال يداً واحدة».

أما اليوم، وفق «أم قاسم»، «عندما احتكر الأنذال السلاح، تحولت الثورة إلى ثروة». تقول وقد لمعت عيناها للتشبيه الذي أصاب واقع الحال: «نعم ثروة لأنهم يسعون وراء المال ونسوا الثورة وفلسطين».

ولكن هل نسوا فلسطين فقط؟ تسأل مريم التي عضها جرذ خلال نومها في عليتها المسقوفة من تنك في حي الزيب. تجيب مريم نفسها «نسوا الشعب ولقمة عيشه أيضاً». سمم الجرذ جسد مريم ونجت من الموت وتهجر أطفالها، فحملتهم وسكنت في دار حماها إلى أن تفي «الأونروا» بوعدها بترميم بيتها وتغيير سقفه. لم يعد الهم معيشياً فقط. الفصائل والتنظيمات، القديمة منها أو المستجدة، تحول الزواريب الى متاريس للقتال الداخلي، فيما تصرف ملايين الدولارات الآتية على اسم الفلسطينيين وبناهم التحتية من كهرباء وماء وترميم منازل، من دون حسيب أو رقيب؟

يقول أحد أعضاء الحراك إن ثمانية ملايين دولار أتت دفعة واحدة لترميم المنازل. ومع ذلك سقط سبعة منازل على رؤوس سكانها في رمضان الماضي وحده، فيما لا يعرف أحد كيف صرف المال ولم يتم ترميم سوى 360 بيتاً، «حسب المحسوبيات في معظم الأحيان». وبالإضافة إلى 8 ملايين دولار، تم رصد دفعتين بمليوني دولار للترميم أيضاً. يضحك أحد شبان الحراك المدني: «لو أعطونا الملايين العشرة لكنا بنينا شققا جديدة».

كأن أهالي عين الحلوة لا يكفيهم حرمانهم من حقوقهم المدنية في لبنان، حتى تقضي الفصائل والتنظيمات الإسلامية على مساعيهم لتحسين عيشهم. كان عين الحلوة بسوقه الشهير ومعه المحال المتنوعة على الضفتين، مقصد مدينة صيدا وجوارها، وكان المال يلعب بين أيدي تجاره والباعة. الآن، وفي ظل التوتر الأمني اليومي، لا يجرؤ «الغريب» على دخول المخيم. حتى نساء المخيم، وفق صاحب أحد محال الخضار، بتن يأتين صباحاً لشراء حاجياتهن والعودة سريعاً خشية أي أمر طارئ. هذا الواقع الأمني أفقد السوق تسعين في المئة من حركته اليومية.

هو واقع يقيد حركة الشباب بسبب تضارب حسابات الممسكين بالشارع، بعضهم لا يمكنه الحركة بأوسع من قطر خمسين متراً خوفاً من كمائن التنظيمات الإرهابية. يشكو من ذلك كثيرون من شبان المخيم، برغم قول ناشطين في الحراك المدني بأن لا نار من دون دخان.

يعترض محمود ويسأل: «إذا رفضت تحول مخيمك رهينة لـ«داعش» أو «النصرة»، أصبحت من أصحاب السوابق والمطلوبين». يعطي مثلاً على ذلك ما حصل مع علي عوض البحتي الذي اغتالته التنظيمات الإرهابية من دون أي سبب، فيما تذرعوا بأنهم تلاسنوا معه فـ «كفر بالله»، وهي واقعة ينفيها كل من كانوا قرب علي البحتي.

محمد نفسه مطلوب للقوى الأمنية اللبنانية مثله مثل عشرات وربما مئات الشبان الفلسطينيين بسبب ما يسميها «مخالفات بسيطة». مؤخراً، وبرغم تطمينات القوى الأمنية اللبنانية للمطلوبين ومناشدتها من لديهم ملفات عالقة بتصفية أمورهم لكي يستعيدوا حرية حركتهم وممارسة أعمالهم بتسليم أنفسهم، إلاّ أن البعض يقلل من قيمة ذلك آخذا على تلك القوى «تركيب الملفات وتراكم التقارير المخابراتية».

هنا يقول مصدر أمني إن الجيش «يتعامل مع أي مطلوب عندما يسلم نفسه وفقاً للقانون، بغض النظر إن كان هناك تقارير مغلوطة أم لا، بحيث يسأل عن كل ما ينسب إليه ويتم التحقيق معه والإفراج عنه إذا لم تتوفر أدلة تدينه، وهذا متروك للقضاء».

وتستفيد المجموعات الإرهابية في المخيم من وجود شريحة لا بأس بها من الشبان المطلوبين فتوهمهم بتأمين الحماية لهم، كما من أولئك العاطلين من العمل، فتدفع لهم مبالغ مالية شهرية. كما تلعب مسألة الحماية، وخصوصاً عندما تتحول المسائل الأمنية إلى عائلية، دوراً كبيراً في المخيم واصطفافاته.

واحات مدنية

وحدها مساعي المجتمع المدني ولجانه في الأحياء تسير عكس التيار الكئيب الذي يطبع يوميات سكان مخيم عين الحلوة الذين لامس عددهم المئة الف نسمة، يضاف إليهم عشرون الف فلسطيني سوري تهجروا من سوريا. في حي الزيب، قامت لجنة الحي بطلاء الزقاق الرئيسي وتزيينه بالزهور والورود والقناديل العتيقة، فتحول الزاروب إلى «حديقة عامة».

على طرف الحي نفسه، يضع محمود عطايا يوميا بركة ماء بلاستيكية على حصيرة ويفتحها لأطفال الحي «يسبحون» فيها غير آبهين بالسيارات التي تعبر بفارق سنتيمترات قليلة عن حافة البركة، فيما تطغى ضحكاتهم المسروقة من توتر محيطهم على الضجيج والسلاح المثبت على خاصرة معظم الشبان في سعيهم لحماية أنفسهم.

في أحياء أخرى، تنظم اللجان أنشطة ترفيهية لأولاد المخيم وندوات ولقاءات لناسه ولكن الأهم هو تحول الحراك المدني إلى ما يشبه «لجان ظل شعبية» تراقب عمل اللجان الرسمية في المخيم «نريد أن نكون شركاء مطلعين على ما يجري باسم ناس المخيم، لا أن نلغي دور اللجان أو نحل مكانها»، وفق ما يقول وديع علي من المبادرة الشعبية.

مع تداخل الأحياء لا يمكن القول إن «داعش» يسيطر تماما على هذه المنطقة أو تلك. الحديث هنا قد لا يصح إلا على الزواريب، وإن ظلل حياً برمّته أحياناً كما يحصل في الطيرة مثلاً حيث يتمترس بلال بدر المحسوب على «النصرة».

في الشارع العام ما بين «جامع أم النور»، حيث «الحركة المجاهدة» وزعيمها جمال الخطاب، والمنشية حيث السيطرة «رسمياً» لحركة «فتح» المقدح، يرتفع وسط الشارع علم أسود لـ «داعش». هذا لن تراه سوى في عين الحلوة. ماذا عن الخريطة الأمنية؟