كتب نوفل ضو في صحيفة “الجمهورية”:
يُعتبر الخلاف على ملكية عدد من العقارات الكبيرة في بلدة لاسا الجبيلية بين النيابة البطريركية المارونية على جونية من جهة والسكان الشيعة من جهة ثانية واحداً من مظاهر استبدال القانون في لبنان بموازين القوى.منذ العام 2006 برزت الى الواجهة نزاعات حول ملكية بعض العقارات الممسوحة والمسجّلة لدى السجل العقاري والتي تملك مطرانية جونية المارونية صكوكاً بملكيتها وفقاً للأصول. فبعض أهالي لاسا من الطائفة الشيعية يعتبر أنّ له حقوقاً في هذه العقارات وأنً عملية المسح التي تعود الى العام 1939 شابَتها في تلك الفترة «عيوب» ألحقت إجحافاً بحقوق بعض السكان.
لكن، وعوض اللجوء الى القضاء لإعطاء كلّ ذي حق حقه وفقاً للقانون بحسب الإثباتات والوثائق المتوافرة، يعمد بعض سكان لاسا ووجهائها الى منع المسّاحين من القيام بأعمالهم بالقوة بغطاء من مرجعيات سياسية وحزبية ودينية في محاولة لحلّ المشكلة من طريق «تسوية» تتجاوز القانون شكلاً ومضموناً، مستفيدين من موازين القوى الموجودة على الأرض وهم يستدرجون الكنيسة المارونية الى مفاوضات واجتماعات ولقاءات بحجة تلافي أيّ مشكلة طائفية تمسّ السلم الأهلي.
إنّ الخطورة في ما تشهده بلدة لاسا تكمن في أنّ الخضوع لـ«منطق» عدم صحّة عمليات المسح التي تمت منذ العام 1939 و«تصحيحها» بتسويات الأمر الواقع بعيداً من الآليات القانونية والقضائية، سوف يجعل من المسألة سابقة يمكن أن تنسحب على أكثر من منطقة لبنانية تشعر فيها الأحزاب والقوى السياسية والفاعليات الشيعية بأنها قادرة على فرض وجهة نظرها فيها على حساب أصحاب الحقوق المسيحيين على نحو يُهدّد بتغيير ممنهَج لهوية الأرض وبالتالي للهوية التعددية للبنان.
ولعلّ ما يزيد من هذه المخاوف ما شهدته الضاحية الجنوبية لبيروت على مدى السنوات العشرين الماضية من عمليات شراء منظّمة وممنهجة لأراضي المسيحيين من خلال سياسة الترغيب والترهيب، ما أدّى الى تغيير الهوية الديموغرافية لتلك المنطقة بحيث لم يعد المسيحيون يملكون فيها أكثر من 5 في المئة من الأرض بعدما كانت أملاكهم بُعيد نهاية الحرب تفوق الخمسين في المئة.
أما في الجنوب والبقاع، فقد وضَع «حزب الله» ولا يزال يده بقوة «الأمر الواقع» على ملايين الأمتار المربعة من الأراضي التي يملك المسيحيون الكثير منها، وحوّلها الى مناطق عسكرية مقفلة يمنع الدخول إليها واستثمارها في الزراعة أو في غيرها من المجالات بحجّة أنها مناطق عسكرية حسّاسة لأمن المقاومة وحركتها.
ويزيد من خطورة تراكم هذه المشكلات «العقارية» على مساحة لبنان، كونها تترافق مع مسار سياسي مماثل يتمّ الإستغناء فيه عن الدستور والقانون في حلّ المشكلات السياسية العالقة واستبدالهما بتسويات تُفرض على اللبنانيين بقوة الأمر الواقع وتُهدّد بتغيير هوية لبنان الديموغرافية والسياسية والديموقراطية.
من هنا أهمية العودة الى الدستور والقانون والى المسارات الشرعية والمؤسساتية والقضائية في إيجاد الحلول للمشكلات والخلافات بين اللبنانيين على المستويات كافة، بدءاً بطاولة الحوار التي تشكل شكلاً من أشكال «الأمر الواقع» باعتبارها إطاراً غير دستوري وغير مؤسساتي يُقارب المسائل الخلافية بعيداً عمّا ينص عليه الدستور والقوانين المرعية الإجراء وعلى حساب عمل المؤسسات الدستورية المتمثلة في مجلسَي النواب والوزراء ورئاسة الجمهورية ودورها وصلاحياتها التشريعية والإجرائية والرقابية، بدءاً بتسمية رئيس الجمهورية ومروراُ بتشكيل الحكومات وصولاً الى قوانين الإنتخابات المعلّبة والمعروفة نتائجها سلفاً.
إنّ أحداً لا يُنكر أهمية الحوار كوسيلة من وسائل التفاهم وفض النزاعات بين الأشخاص والجماعات والدول. فحتى المحاكم تنصح المتقاضين بالحلول «الحبّية» قبل ولوج مرحلة الأحكام المبرَمة شرط أن يتمّ ذلك تحت سقف القانون وليس على حسابه. فأيّ تسوية يشعر معها أحد أطراف الخلاف بأنه مظلوم ومقهور ستشكل في حدّ ذاتها مشروع أزمة جديدة مستقبَلية يؤسّس لها الإحتقان الذي سرعان ما يعود الى الإنفجار عند أوّل فرصة تسمح للمظلوم بأن يقلب الطاولة.
لذلك، فإنّ الشعار الذي أطلقه الناشطون في قوى «14 آذار» في رسالتهم – الإنذار الى المتحاورين بضرورة أن تكون الحلول التي يسعون إليها مبنيّة على قاعدة «قوة التوازن والقانون والدستور» التي تضمن الإستقرار والعدالة للجميع، لا على أساس «موازين القوى» التي يحكمها السلاح والتي يمكن أن تتغيّر عند كلّ مفترق محلّي وإقليمي ودولي، يبدو اليوم قاعدة ضرورية لحلّ أيّ مشكلة بدءاً بالخلافات الشخصية والمناطقية والعقارية وصولاً الى الخلافات السياسية والوطنية، إذا ما أريد لهذه المشكلات أن تلقى حلاً ثابتاً ومستداماً… وإلّا فإنّ الكنيسة والقيادة الروحية للطائفة الشيعية والسياسيين يكونون في موقع مَن يؤسِّس مِن حيث يريد أو لا يريد، ومِن حيث يَدري أو لا يَدري لحالات احتقان وقهر جديدة ستنتهي عاجلاً أو آجلاً بانفجار جديد!