كتبت ساندي الحايك في صحيفة “السفير”:
أبى الطفل جواد جمعة أن يخلد مع أخته الأصغر سناً إلى النوم ليل الإثنين. انتظر طويلاً عودة والده من العمل. وفور معرفته باقتراب والده من المنزل، أسرع نحو الشرفة لمعاينته، وتسلق السور الحديدي (الدرابزين)، فسقط أرضاً من شرفة منزله في الطبقة الثانية، ما أسفر عن نزيف حاد في دماغه وكسور في الجمجمة.
حملت العائلة طفلها المُصاب ونقلته إلى مستشفى السان تيريز في الحدث – بعبدا، حيث أُجريت له الإسعافات الأولية اللازمة. بحسب والدة الطفل، زينب جمعة، فإن “إدارة المستشفى أبلغتنا أن التجهيزات المطلوبة لمعالجة جواد غير متوفرة لديهم، طالبين منا تأمين مكان له في مستشفى آخر”.
هنا، بدأت رحلة المعاناة، وفق زينب. جالت العائلة، حتى ساعات الفجر الأولى، على عدد كبير من المستشفيات في العاصمة وجوارها إلا أنها جميعها رفضت استقباله بحجة أن “لا أماكن شاغرة”.
أكثر من سبع ساعات قضاها ابن الأربع سنوات رهين الحسابات المادية للمستشفيات و “المافيات” التي رفضت استقباله حتى من دون الإطلاع على التقرير الطبي الذي زودت به مستشفى “السان تيريز” ذوي الطفل على وجه السرعة نظراً لخطورة وضعه.
وبرغم أن والد جواد موظف في مطار رفيق الحريري الدولي ويتمتع برعاية صحية (ضمان إجتماعي)، رفضت غالبية المستشفيات معالجة ابنه الذي كان قد بدأ يتأرجح بين الحياة والموت. وفق زينب “أغلبية المستشفيات طلبت منا دفع مبالغ مالية باهظة قبل معاينة جواد”، قائلةً: “وقفنا في منتصف الليل نتوسل أمام أبواب المستشفيات ونشحذ حياةً لطفلنا”.
وتوضح خالة جواد، فاطمة ترمس لـ “السفير” أن “أحد أهم المستشفيات في بيروت طلب منا بداية دفع مبلغ 9 آلاف دولار نقداً مقابل تأمين سرير له، لكن والده أبلغ الموظفة أن الوقت متأخر جداً إذ كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة فجراً، ونحن لا نحمل في جيوبنا سوى 3 آلاف دولار، طالباً منها استلامه الآن وإدخال الطفل للمعالجة مقابل أن يوقع لها على تعهد بتأمين ما تبقى من المبلغ صباحاً، إلا أنها رفضت. ثم عادت ورفعت المبلغ إلى 22 ألف دولار بحجة أنها تكاليف العملية الجراحية بعد أن وردتها من قسم المحاسبة”.
وفي تسجيل صوتي حصلت عليه “السفير”، تظهر الموظفة في المستشفى المذكور تتفاوض مع أحد أقرباء الطفل، قائلةً: “ما في محلات ضمان بالمستشفى.. أماكن الضمان كتير محدودة عنا”، ثم تردف: “إنو في محل بس في آلية خاصة للموضوع وأنا خبرت أهل الطفل بهالشي”. يسألها الشاب: “شو فينا نعمل هلق؟ نحنا بيهمنا إنو يفوت الطفل إلى المستشفى لأن وضعه كتير صعب”، فتجيب: “أنا حكيت مع اللي فوق (!)، والمفروض أنو يندفع مبلغ 22 ألف دولار تكاليف العملية. غير هيك ما بينعمل شي، ولازم ننتظر للصبح”.
يطرح كلام الموظفة العديد من علامات الاستفهام: كيف تأكدت الموظفة من أن الطفل بحاجة إلى عملية جراحية، في حين أن أحداً من الأطباء أو موظفي الطوارئ لم يتكبد عناء معاينته؟ ولماذا تم رفع المبلغ إلى هذا الحد فجأةً (من 9 آلاف دولار إلى 22 ألفاً)؟ وما هي كلفة العملية الجراحية الحقيقية إن كان الطفل يحظى برعاية الضمان الاجتماعي الذي يغطي عادةً 90 في المئة من التكلفة؟ والأهم، لماذا لا تلتزم المستشفيات بتعميم وزير الصحة وائل أبو فاعور الذي حذّر فيه من عدم استقبال المرضى تحت أي ذريعة كانت وتركهم فريسة للموت على أبواب المستشفيات؟
لم تيأس عائلة جواد واستمرت في البحث عن طريقة لخلاص ابنها. وبعد سلسلة اتصالات مع وزارة الصحة نُقل جواد إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي حيث أُجريت له الفحوصات اللازمة ووُضع تحت الرقابة الصحية المُشددة. ويوضح طبيب الأطفال الذي عاينه في المستشفى الحكومي، نوفل نوفل لـ “السفير” أن “حالة الطفل الصحية مستقرة حتى الساعة، وهو يُعاني من كسور في الجمجمة ونزيف في الرأس استطعنا السيطرة عليه لذلك فلا داعي لإجراء عملية جراحية له”، مشيراً إلى “أننا سنعيد إجراء الصور الشعاعية والفحوص مرة جديدة اليوم لنُعيد تقييم وضعه الصحي وللتأكد من عدم وجود مضاعفات”.
إلى ذلك، فتحت وزارة الصحة تحقيقاً بقضية الطفل جواد جمعة واستدعت أهله وممثلين عن المستشفى الذي رفض استقباله فارضا مبالغ مالية طائلة، للحضور إلى الوزارة صباح اليوم.
من المؤكد أن المعاناة التي واجهها الطفل جواد للحصول على حقه بالاستشفاء ليست حديثة العهد، إلا أن الجديد يكمن في أن يخرج علينا نقيب المستشفيات الخاصة ليتذمر من اهتمام وزارة الصحة بالمستشفيات الحكومية، تلك المستشفيات التي ترعى مئات اللبنانيين المحرومين من أي رعاية صحية أو اجتماعية، تماماً على عكس المستشفيات الخاصة التي حوّلت المهنة إلى بازار تجاري وأفقدتها رسالتها الإنسانية.