كتبت راكيل عتيّق فس صحيفة “الجمهورية”:
هذا المقال لا يهدف إلى الوعظ بل للتذكير فقط. التذكير بالعمل الإنساني في “اليوم العالمي للعمل الإنساني”. في 19 آب من كلّ عام يُحتفى بالعاملين والمتطوّعين في المجال الإنساني الذين يواجهون خطر الاستشهاد والإعاقة والجرح والمرض… من أجل إطعام طفلٍ، أو إنقاذ كهلٍ أو إحياء روح عائلة.
حدّدت منظمة الأمم المتحدة تاريخ 19 آب يوماً عالميّاً للعمل الإنساني لتزامنه مع حلول الذكرى السنوية للهجوم على مقرّ الأمم المتحدة في العاصمة العراقية بغداد عام 2003، حيث أدّى الهجوم الإرهابي إلى مصرع 22 شخصاً.
تحية… وحملة إنسانية
هذا اليوم هو مناسبة للإعتراف بأفضال أولئك الذين يخاطرون بأنفسهم في سبيل أداء الواجب في مجال الإغاثة الإنسانية، وتحيّة للذين لقوا حتفهم أثناء أداء واجبهم الإنساني. كما أنه غدا بمثابة حملة إنسانية عالمية سنوية لإعلاء شأن الروح الإنسانية وحشد الناس ودعوتهم إلى العمل من أجل عالمٍ أكثر تراحماً وعطفاً.
وتعلن منظمة الأمم المتحدة عبر موقعها الإلكتروني، أنه يُراد من الاحتفال بهذا اليوم في العام 2016 تحت شعار “إنسانية واحدة” التركيز على أعمال القمّة الإنسانية العالمية التي أُقيمت أخيراً في اسطنبول، وعلى تنفيذ الإلتزامات بالدعم لـ130 مليون محتاج.
وستُقام فعاليات في كلّ أرجاء العالم اليوم لتكريم العاملين في المجال الإنساني.
بعد إيلان… عمران
مناطق عدة من حول العالم تعيش صراعات وحروب مباشرة أو غير مباشرة، تؤدّي إلى الموت، الجوع، التشرّد، التهجير، الأمراض… وغيرها من الويلات الإنسانية. من نيجيريا إلى جوبا، إلى اليمن والعراق وسوريا.
جنود، أطباء، موظفون، متطوّعون، صحافيون، مصوّرون… كلّ يساعد بطريقته. كلّ يخاطر بطريقته.
تتعدّد الجمعيات والمنظمات العالمية أو المحلية، الحكومية أو غير الحكومية التي تقدّم المساعدات في شتى الميادين. وكثر استشهدوا وهم يمدّون يد المساعدة للخائفين المظلومين المنهَكين في مناطق البؤس والفقر أو النزاعات العسكرية.
بعد الطفل إيلان كردي الذي وُجِدَ جثّة على أحد شواطئ تركيا بعد غرق المركب الذي كان ينقله مع أهله، وتداول صورته التي صدمت العالم بشكلٍ واسع على مواقع التواصل الإجتماعي، بدأ منذ البارحة تداول صورة الفتى عمران دكنيش وهو في الخامسة من العمر، الذي انتشل من بين الانقاض بعد غارة مدمّرة في حلب. ويظهر عمران في الصورة جالساً مصدوماً مرعوباً على كرسي برتقالي في سيارة إسعاف مغطّى بالغبار ووجهه ملطّخ بالدماء.
عمران البريء وغيره ممَّن يعانون في سوريا، أمل إنقاذهم يأتي من أيدٍ قريبة أو غريبة، ومن قلوبٍ تُعتصر وعيونٍ تحتوي الألم.
“عايزين كلّ شي”
تحيّة لكلّ مَن ترك كلّ شيء وراءه ومشى صوب الخطر لكمش لذة إنقاذ روح بيده. وتحية لكلّ مَن خسر كلّ شيء وفتح يده منتظراً تلك اليد.
اللغة الإنسانية ليست بحاجة إلى منزلات دينية أو قواعد قانونية. لكنّ معظم الناس عيونهم فقط تحزن. مشهد أو تقرير تلفزيوني أو صورة أو حكاية… تُحزِن، وتنتهي الحكاية.
كم من إيلان وعمران أمامنا وخلفنا وإلى جانبنا؟ كم من أمّ تعمل في المنازل والشوارع كي تطعم طفلاً لا يفهم الجوع؟ كم من أبٍ لم يَخبَر من الحياة إلّا العمل كي يَخبر أولاده الحياة! كم من مئات آلاف اللاجئين السوريين في لبنان، الذين يحتاجون كلّ شيء!
خلال جولة على عدد من مخيمات اللاجئين السوريين في البقاع، سألت ابنة “الشاويش” (المسؤول عن المخيم)، عن حاجاتهم الملحّة، فابتسمت. أعدت السؤال: “شو أكتر شي عايزينو؟” أتى الجواب “ما في شي مش عايزينو”.
ليس ضرورياً أن نكون مثل الأم تريزا التي حازت جائزة نوبل للسلام عام 1979 لتكريس حياتها ونفسها لمساعدة المعوزين، والتي في الخامسة والسبعين من العمر ذهبت إلى الحبشة لمساعدة المنكوبين هناك وإغاثتهم من الجوع والتشرّد.
ليس واجباً أن نكون مثل القديس فرنسيس الأسيزي الذي ترك عائلته وأصدقاءه وبيته وبدأ الدعوة إلى مساعدة الفقراء، وخلع عنه حياة البذخ وارتدى ثياباً بسيطة. ليسال المطلوب أن يخاطر كلّ واحد منا بحياته أو أن يسلك صراط العاملين في مجال الإغاثة في مناطق خطرة. يكفي فتح اليد. المحتاجون كُثر، وقريبون أكثر ممّا نرى.
فعل إنسانية وإيمان
العمل الإنساني، إن لم ينبع من شعور “إنساني” فممكن أن يكون فعل إيمان. فأقوال الرسول محمد عن المساعات الإنسانية كثيرة، ومنها قوله: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: مَن يا رسول الله؟ قال: من بات شبعاناً وجاره جائع وهو يعلم”.
وفي حديثٍ آخر يقول: “إنّ لله عباداً اختصهم الله بقضاء حوائج الناس حبّبهم إلى الخير وحبّب الخير إليهم… إنهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة”. أما الديانة المسيحية، فأسُسها مساعدة الإنسان، المسيح المخلّص قدّم نفسه من أجل الإنسان! ومن كلام السيد المسيح:
يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريباً فآويتموني. عرياناً فكسوتموني. مريضاً فزرتموني. محبوساً فأتيتم إلي.
فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك، أو عطشاناً فسقيناك ومتى رأيناك غريباً فآويناك، أو عرياناً فكسوناك ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك. فيجيب الملك ويقول لهم: الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم.
من الإيمان، تقديم صلاة الفجر أو قداس المساء من أجل العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية، ومن أجل مَن يحتاجون هذا الفعل. ومن الإيمان والانسانية، أن نقوم، ونقوم بعمل إنساني ما بين سجدة وركعة. الفعل الواحد الموحّد للمؤمن والملحد. الإنسانية.