كتب حكمت عبيد في صحيفة “السفير”:
إذا كانت قضية استخدام هيلاري كلينتون بريدها الالكتروني الشخصي بدلاً من البريد الالكتروني الحكومي قد هدّدت في لحظة ما مستقبلها كمرشحة لرئاسة الولايات المتحدة، فإن وزارات الخارجية في العالم تعتبر وزارات سيادية لكونها على تماس مع الأمن القومي لكل بلد من خلال عناصر عدة أبرزها منظومة العلاقات وقاعدة البيانات.
هل تضع دولة كلبنان ضوابط لنظام المعلوماتية في وزارة خارجيتها، لا سيما أن مضمون مراسلاتها يندرج في خانة الأمن القومي؟
لا جدل في حاجة وزارة الخارجية إلى نظام الربط الالكتروني على مستوى الوزارة نفسها، ومن ثم علاقتها بباقي السفارات والقنصليات في العالم؛ والأهم على صعيد علاقتها بالجمهور الاغترابي والجاليات المنتشرة في شتى أنحاء الكرة الأرضية.
وإذا كان الربط الالكتروني ضرورة، بكل متطلّباته الإدارية والتقنية، فهل يمنع من طرح سؤالين أولهما يتصل بالضوابط المطلوب توافرها لحماية النظام الالكتروني الجديد؛ وثانيهما يتعلّق بكلفة نظام الربط الالكتروني، خصوصاً عندما يتبين وجود هبات (عربية وأجنبية) كان يمكن أن توفر على خزينة الدولة مليوني دولار أميركي.. الا إذا كان لسان حال القيّمين على الأمر أنه قبل أن تجري مساءلتنا عن هدر بقيمة تزيد عن مليوني دولار، اذهبوا وابحثوا عن هدر بقيمة عشرات لا بل مئات آلاف ملايين الدولارات، من النفايات إلى الاتصالات مروراً بالمعاينة الميكانيكية والأشغال.
ثمة همس في وزارة الخارجية منذ فترة، عن واقعة تجري فصولها المتتالية في مديرية الشؤون الإدارية والمالية، التي يديرها سفير بـ “التكليف” منذ تقاعد المدير الأصيل في العام 2015، والذي قام بالتنسيق مع “سكرتيرة السكرتيرات” بوضع مشروع “المكننة”، أي الربط الإلكتروني بين الوزارة في بيروت وبين البعثات اللبنانية في الخارج، بقيمة بلغت ثلاثة مليارات وسبعمئة وواحد وأربعين مليون ليرة (2.5 مليون دولار).
تؤكد جهة رسمية معنية أهمية وحيوية المشروع وتقول لـ “السفير” إن من شأنه “تفعيل العمل الديبلوماسي والاغترابي على حدّ سواء”، وترى أن الوزارة “أمّنت وفراً يبلغ نحو مليار وربع المليار ليرة نتيجة “المناقصة”. وهي توضح أن المشروع “يشمل تركيب أجهزة و “سرفرات” في الإدارة المركزية والبعثات مع إعداد البرامج الخاصة للإحالات الإلكترونية، بحيث تصل المعاملات، على اختلافها، يومياً الى الإدارة المركزية بدلاً من أن يستقبلها أحد الموظفين على بريده الالكتروني في منزله”!
تفاصيل المناقصة المشبوهة
في الوقائع، تتحدث جهة رسمية مطلعة عن “صفقة” لم يكن فيها سوى شركة BMB الفائزة وأربع شركات أخرى، من أجل استكمال الصورة وليس تأمين عنصر المنافسة، بدليل أن المعنيين لم يطلعوا على مغلفات باقي الشركات، خصوصاً أن أصحاب الشركة الفائزة تربطهم منظومة مصالح ببعض المعنيين بالقرار لا تتعلق بالقطاع الرقمي نهائياً، من دون أن تفصح عن طبيعة هذه المصالح!
صحيح أن مجلس الوزراء وافق على تلزيم هذا المشروع بالتراضي، إلا أن الوقائع تترك القارئ يستنتج أهداف صفقة جرت بسرعة وضمن حلقة ضيقة جداً تشمل حصراً الثلاثي “المدير بالتكليف”، “سكرتيرة السكرتيرات” و “المتعاقد” خليل خليل، الذي بدأ العمل في الخارجية في عهد الوزير فارس بويز في التسعينيات، وهو “العرّاب” الذي تولى حياكة خيوط الصفقة مع شركة BMB، فيما استصدر المدير بالتكليف، وبشراكة كاملة مع “السكرتيرة”، قراراً تبين أنه ممهور بتوقيع وزير الخارجية يقضي بتأليف لجنة جديدة لاستدراج العروض يكون المقرّر فيها هو خليل نفسه. وهذه كانت الحلقة الأهم في مسلسل الوصول إلى تلزيم المشروع لشركة BMB.
وفي معرض قيامه بدوره المرسوم له في لجنة استدراج العروض، تمكن خليل من تغييب دور وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية /OMSAR/ ودورها الرسمي وهو يتصل بشؤون المعلوماتية في كل الوزارات منذ مدة طويلة. كما أوهم شركات عدة بأنه سوف يشركها في المنافسة، إلا أن هذه الشركات سرعان ما اكتشفت أنها خارجها ولم يطلب منها حتى الحضور لتتبلّغ تاريخ تقديم العروض، كما تبين أن بعض المستشارين في وزارة الخارجية طلبوا إعادة النظر بالصفقة لخلوّها من الشفافية، إلا أن “السكرتيرة” أو “وزيرة الظل” (من الطاقة إلى الخارجية، مروراً بالاتصالات)، تولت إبعاد الشركات وإسكات المستشارين.
وتبين أن “السكرتيرة” نفسها أشرفت شخصياً على سلق دفتر شروط الصفقة الذي دبّر على عجل، والذي لا يرقى لأن يكون دفتر شروط لصفقة لوازم قرطاسية، وكذلك “ضمنت” استناداً إلى مبدأ الثواب والعقاب أن يكون رئيس الدائرة المالية غير معارض للتلزيم.
واللافت للانتباه، أنه تمّ سحب خليل خليل من لجنة المناقصات فور إنجاز صفقة المكننة مع شركة BMB، وإعادة المقرّر القديم إليها، وكأن دوره في اللجنة كان فقط تأمين إرساء الصفقة على الشركة المذكورة بأمان، والانسحاب بعد ذلك من “الكادر”.
ووفق المصدر الرسمي، فإن مجلس الوزراء وافق على إجراء الصفقة مع شركة BMB، برغم رفض الصفقة في وقت سابق من قبل ديوان المحاسبة، “لانعدام عنصر المنافسة ولمخالفة الصفقة للقانون ولنقص في مستنداتها”.
ويقول مصدر معني في وزارة الخارجية إن مجلس الوزراء لم يوافق وحسب، بل أبلغ وزير الخارجية أنه كان بمقدوره أن يجري الصفقة بالتراضي من دون العودة الى مجلس الوزراء وهذه نقطة تسجل لوزارة الخارجية وليس ضدّها.
تخطّي مؤسسات الدولة
إلا أنه مع تمكّن “الثلاثي” من إنجاز الصفقة، يمكن تسـجيل الآتي:
1 ـ تمّ تخطّي ديوان المحاسبة، الذي كان رافضاً للصفقة، استناداً إلى قرار سابق لمجلس الوزراء يحصر الاتفاقات بالتراضي بـ “صفقات الأشغال العامة”، وهو الأمر الذي لا ينطبق على طبيعة مشروع مكننة وزارة الخارجية.
2 ـ خلافاً لمنطق الدول، يتولّى شخصان أحدهما متعاقد، وليس لجنة، الإشراف على تنفيذ شركة خاصة لمشروع بكلفة 3741 مليار ليرة. في حين أن وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارة التي وضعت أسس المكننة في عهد الرئيس نجيب ميقاتي، وبرغم إبداء جهوزيتها للإشراف على تنفيذ المشروع، بكلفة أقل بكثير، تمّ تجاهل دراسة كانت أنجزتها (الكلفة أقل بفضل تجهيزات كبيرة ومتطوّرة مؤمنة من هبة صينية تردّد أنه تم إغفال ملفها وإبعاده عن وزير الخارجية).
3 ـ أهمل “الثلاثي” عمداً دراسة كان قد قام بها مهندس متخصص من المديرية العامة للأمن العام قبل سنوات عدة قدرت في حينه كلفة إنجاز مشروع المكننة بكامله بـ 800 ألف دولار أميركي فقط.
4 ـ تمّ تكريس خليل خليل وصياً على المراسلات الواردة والصادرة للوزارة والبعثات، إضافة إلى أن مندرجات مشروع المكننة تقضي تكليفه بسفرات إلى عشرات البعثات في الخارج للعمل على تأسيس نظام معلوماتية، ما سيحمّل الخزينة تكاليف لا داعي لها، إذ من الممكن لأي متخصّص في أي شركة معلوماتية موجودة في دول العالم القيام به.
5 ـ إن كل ما يدخل ويخرج من معلومات من وإلى أي كمبيوتر في وزارة الخارجية، سيمر عبر شركة خاصة، مفتاحها خليل خليل، وهذا يتناقض مع خطاب الوزارة الذي يريد إنهاء “التلزيم” القائم حالياً.
مليار ليرة.. عمولة!
يدور الحديث في الوزارة عن عمولة هائلة تبلغ مليار ليرة وأكثر، يتسلّمها خليل تباعاً، خصوصاً بعدما وزّع وعوداً على بعض العاملين بأن نصيبهم محفوظ بمجرد تسهيل مرور الصفقة عبر مراحلها، التي سيكون بالتأكيد هو المشرف عليها مباشرة أو بالواسطة.
والمثير للجدل هو أن خليل عندما يريد تمرير أي فاتورة غير مألوفة من موظفي الدائرة المالية في الوزارة، يتذرّع بأنه مكلّف شخصياً من “سكرتيرة السكرتيرات” بالقيام بذلك، ما دفع بعض الموظفين لإطلاق لقب “سوبر وزير” عليه.
رتّب قرار مجلس الوزراء عجزاً إضافياً على الخزينة كان يمكن تفاديه، لو أخذ المجلس باقتراح وزير الدولة لشوؤن التنمية الإدارية نبيل دو فريج الذي تحفّظ على القرار انطلاقاً من رغبته بالاستفادة من قرض الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والمخصص لأغراض التنمية الإدارية والمكننة، “وهو قـرض متوفر، فوائده صفر، وآجاله طويلة”.
سعى “المدير بالتكليف” ولا يزال إلى وضع شروط لتعيين رئيس لدائرة المعلوماتية المزمع إنشاؤها بمرسوم، وهذه الشروط المقترحة من قبله لا تنطبق إلا على شريكه خليل خليل، براتب شهري يبلغ أربعة ملايين ونصف المليون ليرة، وصلاحيات واسعة تشمل شراء تجهيزات المعلوماتية والتعاقد… مجلس الخدمة المدنية أكد على جوابه الرافض للهيكلية المقترحة، لأن المشروع يعطي متعاقداً سلطات مبالغاً في أمرها، وهذه ستشكل سابقة في تاريخ الإدارة.
وفي الآونة الأخيرة، نجح “الثلاثي”، بتمرير طلب رسمي باسم الوزارة الى مجلس الخدمة المدنية للموافقة على استئجار شقة في محيط وزارة الخارجية لنقل دائرة الأجانب وتجهيزاتها إليها.
وإضافة إلى العمولة الكبيرة التي ستترتّب على عقد الإيجار، سوف يصبح لخليل خليل طابق دائرة الأجانب الحالي بأكمله يتولى من خلاله إدارة الوزارة والبعثات معلوماتياً، بمعنى آخر يصبح وزير ظل للخارجية، يكرس واقعاً لن يتمكن أي وزير من تخطّيه مستقبلاً.
أما دائرة الأجانب فإنها ستطلب بالتأكيد من مجلس الوزراء إعادة ترتيب الشقة الجديدة المستأجرة. وللتوضيح فإن غرفة واحدة تُصدَر منها جوازات السفر الديبلوماسية والخاصة، كانت قد كلفت الخزينة 600 ألف دولار أميركي عند إنشائها من قبل شركة خاصة منذ 3 سنوات تقريباً.
صار لزاماً على وزير الخارجية جبران باسيل أن يضع يده على الملف ويراجع مسار تنفيذ مشروع مكننة وزارة الخارجية، وعلى مجلس الوزراء أن يجري إعادة نظر بهذه القضية، لما لها من ارتباط وثيق ليس فقط بالخارجية كإدارة عامة، ولكن بالأمن القومي اللبناني برمّته. يجري الحديث هنا عن التقارير السياسية والأمنية والأمور القنصلية التي تتبادلها الوزارة مع البعثات اللبنانية في العالم، وعن التعليمات والتوجيهات التي تنقلها الخارجية إلى هذه البعثات، ومنها ما هو متصل بغيرها من الوزارات والرئاسات والأجهزة العسكرية والأمنية ووفودها إلى الخارج؟ فضلاً عما له علاقة بالمعلومات الشخصية لسائر الديبلوماسيين وللموظفين اللبنانيين وربما للملحقين العسكريين في البعثات!
أوضح وزير الدولة لشؤون التنمية الادارية نبيل دو فريج لـ “السفير” أن مشروع الربط الإلكتروني بين المغتربين اللبنانيين والسفارات ضرورة وطنية وإغترابية، “وأنا كنت من المبادرين لإثارة هذا الموضوع مع الوزير جبران باسيل في اليوم التالي لاستلامي مهامي الوزارية على خلفية ما لمسته من معاناة لدى المغتربين”. وقال دو فريج إن استجابة باسيل “كانت فورية وجرى تأليف لجنة لدراسة الحاجات ووضع الخطة التنفيذية المتكاملة، لا سيما وأن المال للمشروع متوفر من الصندوق العربي، وجرى عقد عدة اجتماعات ليتبيّن لاحقا أن ثمة مشروعا آخر يجري التحضير له في وزارة الخارجية بالتوازي مع الجهود المبذولة من قبلنا والفريق المكلّف من وزارة الخارجية”.
وهل سبب ذلك الرغبة بالعجلة وعدم انتظار آليات العمل التقليدية المقيّدة بإجراءات إدارية تؤخر ما هو ملح بالنسبة للخارجية؟
يجيب دو فريج: “لا أعلم، لكن تنفيذ المشروع عبر الصندوق العربي يمر حكما بآليات دقيقة وشفافة للمناقصات واستدراج العقود”.
وعن عامل الوقت، يعتبر دو فريج أنه “لو سلك القرار طريق الوزارة والصندوق العربي لكانت كافة الإجراءات قد أنجزت الآن، فقد مضى على القرار الأول لمجلس الوزراء، والذي اتخذ اثناء غيابي، نحو عام تقريبا”. ويضيف: “ربما كنا أمنّا وفرا إضافيا من خلال افساح المجال أمام مناقصات تأخذ وقتها الطبيعي ويشارك فيها عدد أكبر من الشركات”.
وقد عبّر رئيس إحدى البعثات الدبلوماسية في إحدى دول القرار أثناء وجوده في لبنان في إجازة قصيرة، عن امتعاضه الشديد لاضطراره إلى فتح كل “داتا” السفارة أمام أشخاص متعاقدين مع وزارة الخارجية، سيكون بمقدورهم الاطلاع على كل تفاصيل وتقارير البعثة، وهذا الامر كان لا بد لوزير الخارجية من التنبه له، لأنه من المفترض أن تكون هناك لجنة موثوقة تتولى التعاطي بهذه المعلومات وليس شركة خاصة مفتاحها أشخاص متعاقدون.