كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
مذ أُسقِط الرئيس سعد الحريري وحكومته في كانون الثاني 2011، وخلفه الرئيسان نجيب ميقاتي وتمام سلام في السنوات الخمس المنصرمة، نُظِر الى حزب الله على انه المسؤول المباشر عن اخراجه من السلطة وايصاد الباب مذ ذاك دون عودته.
سبق اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري جهد كان بدأ في تموز 2010 مع مجيء الملك عبدالله والرئيس بشار الاسد معاً الى بيروت لابرام تسوية بين الفريقين السنّي والشيعي، محورها المعلن مصالحة وطنية وفحواها المضمر مراجعة الموقف من المحكمة الدولية.
اعقبها ترجمة للتسوية تلك مسعى قطري ــــ تركي لوضعها موضع التنفيذ، قوّضته اطاحة الحريري وحكومته بقرار مباشر من الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بعد ساعات من اجتماعه بوزيري الخارجية القطري حمد بن جاسم والتركي احمد داود اوغلو.
كان وصول الحريري الى رئاسة الحكومة للمرة الاولى على اثر انتخابات 2009 تنفيذاً لبند حكومة الوحدة الوطنية في اتفاق الدوحة، استبق بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة للاشراف على الانتخابات تلك، ومن ثم يصير الى تأليف حكومة وحدة وطنية اياً يكن الفريق الذي يحوز الغالبية النيابية. توقع حزب الله فوزه وحلفاؤه بها فأخفقوا، فإذا رئاسة الحكومة عند الحريري رئيس الاكثرية النيابية الجديدة. منذ ذلك الحين حيل دون رجوعه الى الحكم.
في الخطاب الاخير لاسبوع خلا، تحدث نصرالله بقليل من الوضوح عن احتمال عودة الحريري الى رئاسة الحكومة. لم تخلُ عباراته عن الانفتاح الايجابي من ايحاء بأنه يضع في الحسبان ان يكون رئيسها الحريري، لكن في مرحلة لاحقة لانتخاب رئيس الجمهورية الذي هو الرئيس ميشال عون. عنى بذلك المعادلة الآتية: رئاسة الحكومة ليست منفصلة عن رئاسة الجمهورية ما دامت الاستحقاق الحتمي الذي يلي انتخاب الرئيس. الا ان الحريري رئيساً لها ــــ او سواه يختاره هو ــــ يسبقه شرط غير قابل للمساومة هو انتخاب عون. حتى الوصول الى ذلك اليوم لا رئيس سواه، الا ان الحريري لن يكون رئيساً للحكومة من دون عون رئيساً للدولة. بيد ان انتخاب الرئيس اولاً.
لم يهضم تيار المستقبل بسهولة هذا الكلام، وطرح نوابه ومسؤولون رئيسيون فيه، اسئلة واستنتاجات، بعضها غالى في التقدير بالقول ان حزب الله يفرض بشروطه رئيس الحكومة، والبعض الآخر انه يضع نفسه وصياً على سلطة دستورية بين ايدي السنّة، وذهب ثالث الى التساؤل ــــ كما لو انه يفكّر ملياً في كلام نصرالله ــــ عن ضمانات يُركن اليها لوصول الحريري الى رئاسة الحكومة بعد انتخاب عون؟ ثم ماذا لو أعاد قلب قواعد اللعبة مجدداً على غرار ما فعل عندما وفر غالبية نيابية حملت ميقاتي الى رئاسة الحكومة وأسقطت اصواتها الحريري منافساً له.
كانت تلك، في كانون الثاني 2011، المرة الاولى التي يهزم أحد في بيت الحريري في هذا المكان ويخرج منحني الظهر. اعتاد الرئيس رفيق الحريري ان يخرج من الحكم بإرادته من دون الايحاء بانكسار. حصل ذلك مرتين: عام 1998 في اولى حكومات عهد الرئيس اميل لحود، وعام 2004 في مطلع الولاية الممددة له. بيد انه لم يسقط كالابن بنقاط اصوات نواب بينهم حلفاء.
لكن الجواب الغامض الذي اخفاه كلام نصرالله هو: ما الذي تغيّر بين عامي 2011 و2016 كي ينتقل الحريري من المبعد عن رئاسة الحكومة الى المتاحة عودته، خصوصاً ان المطلعين عن قرب على موقف الامين العام لحزب الله يشيرون الى ان الرجل لم يتقدّم بمبادرة او عرض للفريق الآخر، بل افكار صالحة للمناقشة.
تجمعت ظروف اطاحة الحريري في رزمة من الاشكالات والخلافات تمحورت بين عامي 2009 و2010 حول المحكمة الدولية والقرار الظني الذي انتقل بتهمة اغتيال الحريري الاب من سوريا الى حزب الله، واثارة ملف شهود الزور الذي عطل في تشرين الثاني وكانون الاول 2010 جلسات مجلس الوزراء قبل التسبب بانفجار الحكومة. ما افضى الى وساطة قطرية ــــ تركية بدعم مزدوج سعودي ــــ فرنسي ترمي الى التخلص من اوزار المحكمة الدولية على الداخل ومواجهة القرار الظني بعدما افلتت المحكمة من ايدي الافرقاء اللبنانيين واضحت مستقلة في عملها بعيداً منهم.
بعد خمس سنوات، في ضوء تطورات مهمة ليس اقلها صعود «الربيع العربي» ثم هبوطه المريع مذ جعل حرب سوريا حروب امم على اراضيها، رسم حزب الله خيارات جديدة:
1 ــــ يُفرَج عن الاستحقاق الرئاسي بانتخاب عون رئيساً، من دون ان يخلو من سلة تفاهمات موازية ترتبط بالحكومة الجديدة رئيساً وحصصاً ونصاباً وبالبيان الوزاري وموقفه من سلاح المقاومة وقانون الانتخاب. سلة مكمّلة لسلة الدوحة بإدارة مماثلة: التوافق على عون على غرار ما حصل عامي 2008 مع المرشح التوافقي، ثم المضي في التفاهمات الاخرى.
2 ــــ لم يعد للمحكمة الدولية تأثير في الانقسامات الداخلية، اذ باتت تتخبط في استدعاء الشهود والخبراء الفنيين دونما ادنى تقدم، ما يجعل مهمتها طويلة وقد لا تنتهي. لا يزال حزب الله يرفض الاعتراف بها وتمويلها من ضمن الموازنة العامة. في نظره تمويلها اقرب الى إطعام بطن ميت.
3 ــــ يُنظر الى الحريري على انه يمثل المشاركة السعودية في الحكم. عندما يدعى ضمناً الى رئاسة حكومة في عهد عون رئيساً، فإن المملكة هي التي تدعى الى السلطة، تجانب رئيس الجمهورية الذي يمثل بدوره ــــ من دون ان يتلقى كحزب الله تعليمات منها او يدين بمرجعيتها العقائدية والسياسية ــــ رمزاً لتحالف سياسي يرتبط بطهران على غرار التصاق الحريري بالسعودية ومشروعها السياسي. كلاهما في قلب استراتيجيتين اقليميتين متناقضتين متنافرتين.
4 ــــ الامن في لبنان مستقر بحد ادنى من المخاوف والهواجس في ضوء مواجهة الجيش الارهاب عند الحدود الشرقية، كما الاجهزة الامنية لشبكاته في الداخل، ناهيك بأن الافرقاء جميعاً بلا استثناء يقاربون الامن على انه ثابتة ليست برسم التلاعب بها: الاشتباك على الارض مع الارهاب، وليس اشتباكاً سنّياً ـ شيعياً. اما التورط في الحرب السورية فشأن آخر.
5 ــــ لا يعني الحوار السنّي ــــ الشيعي سوى جلوس الرياض وطهران الى الطاولة نفسها مع تيار المستقبل وحزب الله. كذلك حالهما الى طاولة الحوار الوطني في عين التينة برئاسة الرئيس نبيه بري، ومعهما حلفاؤهما. وما دامت العاصمتان الاقليميتان الكبريان فيهما، حري ان تكون الى طاولة مجلس الوزراء من خلال الافرقاء اياهما، مع عون رئيساً والحريري رئيساً للحكومة. وخلافاً للمناخ الذي يبثه الحوار السنّي ــــ الشيعي بين فريقين تفاهماً واصراراً على الاستقرار والتهدئة، يمسي في حكومة على صورته قرارات تصدر عن سلطة دستورية.