Site icon IMLebanon

اختبار الحسكة: هدنة “روسية”.. أم دم الانفصال؟

 

كتب محمد بلوط في صحيفة “السفير”:

 

هدنة كردية ـ سورية في الحسكة هشة قبل عودة قريبة الى الحرب من أجل كيان كردي. وإذا كان من غير الواضح الى أين ستذهب الهدنة بالمواجهة بين الجيش السوري والأكراد، إلا أن أول نتائجها مع تقدم المشروع الكردي نحو الفدرالية، دفع الأتراك والسوريين الى التحدث في قناة سرية للمرة الأولى منذ صيف العام ٢٠١١، عبر وصول مساعد لمدير المخابرات التركية حقان فيدان الى دمشق.
الأتراك تلقوا الرسالة السورية عندما قصف الطيران السوري في اليومَين الماضيين، وخلال مواجهات الحسكة، مواقع «وحدات حماية الشعب» الكردية، مرفقين ذلك ببيان يستعير الادبيات العسكرية التركية نفسها، ويضع الوحدات الكردية في خانة واحدة مع حزب العمال الكردستاني «الإرهابي».
ويقول مسؤول كردي كبير، إن أي تفاهم سوري ـ تركي بات ممكنا، خصوصا أن أنقرة تتصرف تحت تأثير هواجس التقارب الأميركي الكردي، وتوسع الولايات المتحدة عسكريا في قواعد جوية أربع في مناطق السيطرة الكردية. ويقول المسؤول الكردي إن الأتراك يمكن أن يلجأوا الى تفعيل اتفاقية اضنة الأمنية الموقعة العام ١٩٩٨ مع دمشق. يفتح الإعلان السوري الباب أمام استدعاء الاتفاقية الأمنية لأنها تنص على تعهد سوري «الا تسمح السلطات السورية لحزب العمال الكردستاني بأي مقار او تمويل او أي نشاط عسكري على الأراضي السورية»، وهناك مراسلات إضافية لم تنشر تتضمن «احتفاظ تركيا بحق الدفاع عن النفس»، اي حق التدخل في الشمال السوري للتصدي لاي خطر امني وارهابي يهدد الجانب التركي. ويقول المسؤول الكردي انه يخشى ان يلجأ الاتراك في النهاية، تحت غطاء «اتفاقية اضنة»، وبعد البيان العسكري السوري المستجد، للتوغل في الاراضي السورية، واجتياح الكانتونات الكردية.
المهمة لا تزال صعبة جدا أمام الجنرال الروسي في مطار القامشلي لاقناع «وحدات حماية الشعب» والجيش السوري بتثبيت هذه الهدنة. القيادة الكردستانية في جبل قنديل تعتبر ان فرصتها التاريخية لبناء مشروعها القومي قد حانت مع اقتناعها بان الاميركيين يدعمون مشروعها بقوة، وان التباين الاميركي – التركي يدفع بهذا الاتجاه. الروس نجحوا بالامس في المحاولة الثانية بفرض اتفاق اولي قبل الشروع بأي مفاوضات اليوم، متضمنا اربع نقاط:
١- وقف الاعمال القتالية، اعتبارا من الخامسة عصر امس.
٢- اجلاء الجرحى والشهداء الى المشافي في القامشلي.
٣ – العودة الى خطوط ما قبل الاشتباك.
٤- الشروع في المفاوضات اليوم، بحضور وسطاء روس وايرانيين ولبنانيين، وممثلين عن الامن الوطني والدفاع الوطني ووحدات حماية الشعب الكردية.
الهدنة اعادت الى «الدفاع الوطني» المواقع التي فقدها خلال ستة ايام من الاشتباكات مع وحدات حماية الشعب الكردي: الجزء الجنوبي من حي النشوة الشرقية، معهد المراقبين الفنيين، فرن الباسل، وكليتي الاقتصاد والهندسة وفرع جامعة الفرات، ودوار الجندي المجهول على الاطراف الجنوبية لحي الغويران العربي في المدينة. التسوية تتضمن دمج وحدات «الدفاع الوطني» في المدينة، بقطعات الجيش السوري في المنطقة، استجابة لمطلب كردي بتحجيم حضور هذه الوحدات في الحسكة خصوصا انها تنافس «وحدات حماية الشعب» الكردية على تجنيد ابناء العشائر العربية. ولكن الادارة السيئة لهذه الوحدات والتجاوزات التي ارتكبتها في المدينة منحت الاكراد فرصة التصعيد ضدها، والاشتباك معها، وتحجيم دورها.
لكنه يصعب تصور انعقاد اي تسوية بين «وحدات حماية الشعب» الكردية، وبين الجيش السوري، لا تكون على حساب الاخير، كما جرت العادة في كل التسويات التي انهت خلافات كثيرة سابقة، كانت «وحدات حماية الشعب» تنتهزها لتتقدم في الحسكة التي باتت تسيطر على ثلثيها، والقامشلي التي تقلصت رقعة سيادة الدولة السورية فيها الى بعض المربعات. وبعد ثلاثة اعوام تكتيكية واختبارية في الادارة الذاتية اولا، تقدم الاكراد نحو الفدرالية التي بدأت تشق طريقها، اذ اكتفوا ان ترتفع في السابع عشر من آذار الماضي، ايدي مئتي شخص في قاعة للاتحاد الديموقراطي الكردي في بلدة الرميلان في الجلسة التي ادراها الدار خليل، قيادي في حركة المجتمع الديموقراطي»، كي تتحول الجزيرة الفراتية السورية، الى قاعدة لانشاء كيان كردي تسارعت الخطوات نحوه بعد ثلاثة اعوام من الادارة الذاتية. وبنيت وقائع على الارض ومؤسسات منتخبة ومجالس محلية، وجيش بات يعد ما بين ثلاثين الفا الى اربعين الف مقاتل، يعتقد الاتحاد الديموقراطي، والعمال الكردستاني برسوخها استنادا الى رهانات، تبين حتى الآن صحتها.
راهن الاكراد على لحظة الحرب الاهلية السورية التاريخية، لإحداث اختراق كياني وقومي ولا يزالون يراهنون على انشغال النظام السوري بالحرب الاهلية، وتراجع قوة المركز الدمشقي وعدم قدرة الجيش السوري على نشر فرق اضافية في الشمال الشرقي. لكن في مواجهة القوة العسكرية الكردية، لا يزال الجيش السوري يملك ما يكفي لكي تختبر دمشق الخيار العسكري في محافظة الحسكة، قلب المشروع الكردي. اذ يملك الجيش السوري الفوج ٥٤ انزال جوي، في محيط مطار القامشلي، وهو فوج يضم نحو ٢٥٠٠ جندي وضابط. ويتمركز شرق مدينة الحسكة ٥٠٠ جندي وضابط من اللواء ١٢١ مدفعية، وينتشر في جبل كوكب اللواء ١٢٣مشاة الذي يتميز بانتماء ٢٥٠٠ من مشاته الى الحسكة نفسها، كما يتمركز الفوج الخامس هجانة، و٥٠٠ من عناصره في قلب المدينة. لكن الخيار العسكري سيصطدم بتقطيع الاكراد لخطوط الامداد والتواصل بين وحدات الجيش اولا، فضلا عن غياب سياسة تجاه العشائر، وضعف منافسته في سوق اقتصاد الحرب الذي يعم الجزيرة الفراتية مع انهيار اقتصادها الزراعي. اذ يشكل العرب اكثر من ٣٠ في المئة من وحدات حماية الشعب، لكن خبيرا في الحسكة يقول ان دمشق لا تستطيع منافسة قوة الجذب الكردية. اذ لا يتجاوز راتب عناصر الدفاع الوطني في المدينة اكثر من ٢٠ الف ليرة سورية شهريا (٤٠ دولارا)، فيما يتلقى عنصر وحدات الشعب الكردية ٦٠ الف ليرة، ويصل راتب عنصر شرطة الاسايش الى ٨٠ الف ليرة سورية. ويزداد ضعف دمشق مع افتقادها الى رافعة محلية لمناهضة المشروع القومي الكردي، مع انقسام قاعدته العشائرية، وهجرة المسيحيين الكثيفة من قلب سوريا المسيحية التاريخية، رغم وقوف الكنيسة السريانية في المنطقة الى جانب دمشق. وكانت دمشق تجاهلت مشروع الادارة الذاتية وضيعت فرصة التفاهم مع الاكراد على قاعدة وطنية، تستجيب فيها لمطالبهم المشروعة، وقامت بتسليحهم لاشراكهم في القتال ضد الجيش الحر، وتوجيه رسالة قوية للاتراك.
يبقى تفصيلا جانبيا مبلغ التجاوزات التي ارتكبها بعض هذه الوحدات، في القامشلي، لان شروط الصدام بين الدولة السورية، و «وحدات حماية الشعب» الكردية لا تزال هي الراجحة لدى الطرفين. ولن تصمد الهدنة باي حال، حتى ولو نجت موقتا، تحت الضغط الروسي من التحول الى مواجهة مفتوحة. اذ لم يعد الاكراد والسوريون وحدهم اصحاب القرار في الشمال السوري، اذ ان اشراك الطيران السوري، غير المسبوق في قصف المواقع الكردية في الحسكة، مرفقا ببيان الجيش السوري الذي تحدث للمرة الاولى، عن حزب العمال الكردستاني كخصم في مواجهات الحسكة، يوضح حجم رهان دمشق على فهم الاتراك للرسالة التي صاغتها اعلى المراجع الامنية السورية، من ان عدوا مشتركا لانقرة ودمشق يجمعهما، وان سوريا وحدها قادرة من دون تدخل تركي على تحجيم الكيان الكردي الوليد، لقاء تعديل التحالفات وتسريع انضمام انقرة الى محور مفترض ان يضم ايران وروسيا والعراق ودمشق. الرسالة ردت عليها انقرة بخطين: الاول معلن على لسان بن علي يلدريم، رئيس الوزراء التركي، ملاحظا ان دمشق باتت تدرك التهديد الارهابي لداعش، وحزب العمال الكردستاني، اما في الخط الثاني وهو السري فتقول مصادر عربية مطلعة ان احد مساعدي رئيس المخابرات التركية حقان فيدان، قد وصل الى دمشق بالامس، والتقى مسؤولا سوريا امنيا كبيرا لبحث التطورات في الشمال السوري.
وكان الاتراك قد بدأوا محاولة مشابهة لفتح قناة تواصل مع دمشق، عندما وصل الى دمشق اسماعيل حقي بكين في السابع والعشرين من ايار الماضي. والجنرال حقي بكين هو الجنرال التركي المتقاعد، وأحد المشرفين على اتفاقية اضنة المعقودة مع انقرة العام ١٩٩٨، ومساعد رئيس المخابرات التركية الذي سجن من العام ٢٠١١ الى ٢٠١٣، بعد اتهامه بالتورط في مؤامرة «ارغينكون» الفاشلة. وكانت المحاولة الاولى التركية لفتح قناة تواصل مع دمشق، بالاضافة الى محاولة اخرى جرت في الجزائر، مع مسؤول سوري كبير، وأحد جنرالات المؤامرة نفسها.
اما من الجهة الكردية، فجلي ان حزب العمال الكردستاني، قد وضع كل بيضه في السلة الاميركية بعد فشله في مواجهة الجيش التركي، واحباط اردوغان تجربة حزب الشعوب الديموقراطي، واليأس من اي حل سياسي. ويقول مسؤول كردي كبير ان حزب العمال الكردستاني، بات بيد من وصفهم «بالصقور» في جبل قنديل، خصوصا بيد رئيس مجلسه التنفيذي جميل باييك، ومساعده مراد قره ييلان. ويقول المسؤول الكردي ان صديقا زار جميل باييك في جبل قنديل مؤخرا، وعاد بانطباع ان كتلة قوية ووازنة داخل حزب العمال الكردستاني تعتقد ان الولايات المتحدة لن تخذلهم هذه المرة، كما خذلتهم في الماضي، وبانه من الممكن الرهان عليها للتقدم نحو كيان كردي في الشمال السوري. ورغم ان الاميركيين لم يتحركوا فعليا خلال القصف الجوي السوري، لحماية حلفائهم الاكراد على الارض، الا انه من المستبعد ان تلجأ الولايات المتحدة الى التخلي عن قواعدها السورية. وبحسب البنتاغون، اعاد الاميركيون انتشار مستشاريهم في الشمال السوري، وسحبوا المجموعة التي كانت تتمركز في منتجع «اللايف ستون» غرب مدينة الحسكة، كما انسحبت المجموعات التي كانت تعمل داخل المدينة نفسها، فيما تمركزت ثلاث طائرات اميركية في مطار الرميلان.