كتب رائد شرف الدين في صحيفة “السفير”:
طرح الإمام السيد موسى الصدر برامج وطنية متكاملة ومفصّلة، من عناوينها الأساسية التنمية الشاملة والمؤتمر العالمي المسيحي ـ الإسلامي في لبنان: “وفي تصوري أنه لا بد فور انتهاء الأزمة اللبنانية من اتخاذ خطوات واسعة تملأ أرض لبنان حركة وتفاعلاً وخيراً، فمن ناحية لا بد من خلق مشاريع إنمائية واسعة النطاق، ومن جهة أخرى فإن إقامة مؤتمر عالمي إسلامي مسيحي في لبنان مع إبراز اعلامي واسع يساعد في خلق المزيد من التعايش وإزالة التراكمات والرواسب”.
بالإضافة إلى تمسكه بالتعايش ومعاملته لكل الناس على أساس إنسانيتهم، كان الإمام الصدر يعلن بصراحة ووضوح عن موقفه من المسيحيين: “المسيحيون هم إخوان لنا في الإيمان وفي الوطن وفي العروبة”.
ويبنى التصوّر المستقبلي للبنان على أهم القيم الإنسانية المنشودة التي سوف تشكّل ركائز وطن الإنسان: “لبنان المستقبل هو لبنان اللاطائفي، لبنان الكفاية في الفرص والمساواة في العدالة، لبنان المتطور، لبنان الشجاع المبادر، لبنان المؤمن الملتزم بالقيم، لبنان ورشة عمل وبناء وطاولة حوار وتطوير”.
ومن ركائز النظام العادل الحرية، إذ إن الحرية هي قيمة أساسية للإنسان يطالب الإمام بتكريسها في المجتمع اللبناني: “الحرية في بلدنا ضرورة حياتية، أي إذا منعنا الحرية عن الناس وحجزنا كفاءات الناس حجزنا وحدّدنا ثروتنا الوحيدة إنساننا وبالتالي فقّرنا بلادنا. إذاً، في مجتمعنا إذا قلنا إن الإنسان هو الرصيد الوحيد لا بد من الحرية، وفي مجتمعنا هنا لا بد من الحرية الحقيقية وليست الحرية الشكلية، أن يتمكن الإنسان من الكلام، وأن يتمكن الإنسان من الخطابة، وأن يتمكن الإنسان من الكتابة فهذه حرية. ولكن ان لا يتمكن الإنسان من التعلم، أن لا يتمكن الإنسان من اختيار حر بحياته التي تتناسب مع كفاءاته، ان لا يتمكن الإنسان من اختيار المكان المناسب والموقع المناسب له، هذا نقص في الحرية”.
هذا الوطن المنشود الذي تسوده القيم والحرية والعدالة والمساواة والايمان والتعايش يصهر المواطنين في طائفة الإنسان: ولا يكتفي الإمام بالدعوة إلى تبني القيم انما يقترح مؤسسات لتفعيلها في الحياة الوطنية. فمن المؤسسات الفعّالة المقترح إيجادها إلى جانب المؤسسات الدستورية مؤسسة للحوار: “إن صورة لبنان المستقبل يجب أن تنطلق من تفاعل الآراء وخبرات اللبنانيين جميعاً، وهذا بحاجة إلى مؤسسة للحوار”.
ويعتقد الإمام الصدر أنه إذا استطاع لبنان بناء مؤسساته ونظامه على أسس كرامة الإنسان والعدالة والمساواة والحرية والتعايش والحوار، يستطيع عند ذلك مواجهة تحديات العصر وأداء دور حضاري في العالم: “القرن المقبل يجب أن يحتوي على أفضل الصيغ لاحترام كل الحضارات والثقافات ولخلق التفاعل التام المتكافئ بينها، وبإمكان لبنان أن يكون كما كان نموذجاً واقعياً لهذا المستقبل الذي نحلم به”.
ويحذّر الإمام من فشل التجربة اللبنانية وآثارها السيئة على لبنان والعالم: “إذا سقطت تجربة لبنان سوف تظلم الحضارة الإنسانية لمدة خمسين عاماً على الأقل”.
أما إذا بنى اللبنانيون وطنهم على أسس القيم الإنسانية والمؤسسات الراقية، فإنهم يستطيعون أن يصنعوا مستقبلاً يصير فيه لبنان الحضاري: “ندوة الحوار الإسلامي ـ المسيحي، وقاعدة اللقاء الأوروبي العربي، ومختبر التفاعل الحضاري، بل يكون واحة للتجربة العالمية الناجحة غداً”.
المسيحيون متجذرون في الشرق، منذ ألفي سنة، وهم أسهموا ثقافياً وفلسفياً وحافظوا على اللغة العربية، وساهموا في حركات التحرر وفي الإدارة والسياسة العامة لدول المنطقة، وسهّلوا التماس الثقافي مع الغرب، وهم وراء إنشاء الكيان اللبناني. كان دور لبنان الحضاري، ولا يزال هاماً جداً فهو يستطيع أن يشكل الأرضية الملائمة لحوار الأديان وملتقى الشعوب وتفاعل الحضارات وتلاقح الثقافات وواحة السلام المنشود والنموذج الحضاري المنفتح المضاد لنماذج التعصب الديني التكفيري.
بعد مرور نحو نصف قرن على بدء نشاط الإمام الصدر في لبنان، انقلبت أحوال المنطقة والعالم، وأخذت المنحى الأسوأ الذي كان يحذّر منه. لم يُتح له أن يكون مؤثراً في تلك الأحداث، بل لم يُتح له أن يكون شاهداً بفعل جريمة تغييبه. أما أفكاره الاجتماعية ومنظومة القيم التي دعا إلى إرسائها في المجتمع الإنساني فهي تشكل ـ بلا أدنى شك ـ منارات مضيئة في ظلمات الأصوليات التكفيرية التي تعيث فساداً وإجراماً في منطقة الشرق الأوسط والعالم. وجهوده لإعادة الاعتبار إلى الإنسان وكرامته وحقوقه تستحق التمحيص في مجتمعات الشرق، مهبط الوحي والرسالات السماوية ومرتع الرسل والأنبياء، كما في الغرب الذي بنى دولاً ومؤسسات ديموقراطية، وشهد نهضة علمية توّجت بثورة تكنولوجية ومعلوماتية، ورفع شعار حقوق الإنسان في كل مكان، وقدّس الحرية في مختلف مجالات الحياة.