كتبت ناتالي اقليموس في صحيفة “الجمهورية”:
«دم ولادنا مِش رخيص». على وقع استنكارات أهالي شهداء الجيش اللبناني في عبرا، انطلقَت جلسة محاكمة إمام مسجد بلال بن رباح أحمد الأسير، أمس. فبعدما اشتمَّ الأهالي رائحة «لفلفِة» للموضوع، قطعوا الطريق أمام المحكمة العسكرية. أمّا في الداخل، فلم يكن ينقص القاعة سوى كمشة رمل ليمثّل فيها الأسير مشهدَ النعامة. في هذا السياق، يكشف مصدر أمني لـ»الجمهورية» أنّ المحكمة «لن تقحِم نفسَها في سجال مع نقابة المحامين الذين انقسَموا في ما بينهم بسبب اعتكاف وكلاء الأسير عن الحضور، إنّما ستعِدّ المحكمة مفاجأة تُسقِط فيها آخر ورقة توت عن الأسير في جلسة 18 تشرين الأوّل».كلُّ مَن نظر إلى أحمد الأسير أمس ظنّ نفسَه أمام نعيم عباس رقم (2) لتمنّعِه عن المحاكمة، وسرعان ما أدرك تماماً أنّه ليس الشيخ نفسه الذي برز مرّة يتزلّج، ومراراً يقود درّاجته، وأحياناً يمازح الأولاد. فقد بدا يُلملِم نفسه، يَستنجد شعبيتَه بقوله «شباب الأسير» وهو يتحدّث عن الموقوفين، قبل أن يعترضوه متنكّرين له: «لم نعرفه من قبل».
في هذا السياق، يؤكّد المصدر الأمني «أنّ الأسير خسر كلّ ذرائعه بعودته إلى سبب أساسي سَبق لوكلاء الدفاع أن حاوَلوا إثارته في الجلسات الأولى عبر إقحام سرايا المقاومة، وهذا قد مرّ عليه الزمن، فاليوم بدا «مأفلِس»….
تفاصيل الجلسة
أكثر من ساعتين استلزَم الوصول من محيط المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي إلى المحكمة العسكرية. بضعة أمتار على امتداد ساعات أثارَت نقمة المواطنين العالقين في سياراتهم، فانهالت الشتائم كزخّ المطر، والتعليقات: «شو ذنبنا؟»، «شو عاملينلك يا ألله»، «ما بعِمرو هالبلد بيجلس»…. إلّا أنّ هذا الغضب سرعان ما تحوّلَ أصواتاً داعمة لأهالي الشهداء، بعد التحاق المواطنين مع العائلات المعتصمة.
حماوة الخارج لم تنسحب على داخل جدران المحكمة العسكرية الدائمة، ليس لأنّ المكيّف فيها «شغّال بلا حسيدة»، بل لأنّ أجواء التأجيل كانت شِبه محسومة سَلفاً، بعدما لوَّح مراراً وكلاء الدفاع عن الأسير، المحامون أنطوان نعمة، محمد صبلوح وعبد البديع عاكوم، بالتمنّع عن الحضور.
فتحَ رئيس المحكمة العميد الركن الطيّار خليل إبراهيم الجلسة على نحو طبيعي، وعدَّد أسماء نحو 30 موقوفاً إلى جانب الأسير، وأسماءَ وكلاء الدفاع، قبل أن يناديَه مباشرةً.
كان الأسير يجلس كالمعتاد على المقعد الخامس، من يمين القوس، محاطاً بأربعة عسكريين، واحد أمامه يحجب عنه التواصل مع بقيّة المتّهمين، آخَر عن شماله، واثنان عن يمينه. لم يَبدُ الأسير في وضعٍ صحّي أسوأ ممّا كان عليه، إستعاد لحيتَه الطويلة التي عُرف فيها، وقد غزاها الشيب، إلّا أنّه أبقى على خسارته للكيلوغرامات، فبدا نحيلاً في عباءةٍ زرقاء، معتمراً قلنسوةً بيضاء، واضعاً نظّارات طبّية سوداء، ومنتعلاً حذاءً أسود غير رسمي.
بخطوات بطيئة تقدَّم الأسير في اتّجاه قوس المحكمة، مجيباً عن سؤال إبراهيم، إنّ سبب غياب وكلاء الدفاع عنه هو عدم البتّ في الإخبار الذي سبقَ أن قدّموه إلى النيابة العامة تحت عنوان «من أطلقَ الرصاصة الأولى؟»، والذي يكشف هوية مطلِقي النار على الجيش في بداية أحداث عبرا.
حيال هدوء الأسير أثناء تحدّثِه وبروز نزعة المماطلة، وكأنّ لكلّ جلسة «حجّة»، نقمةٌ عارمة بدأت ترتسم على وجوه الحاضرين من موقوفين، ومحامين… إلّا أنّ إبراهيم كان له في المرصاد قاطعاً الطريقَ على المراوغة والمماطلة، محمِّلاً الأسير مسؤولية مصير بقيّة الموقوفين في الملف، قائلاً: «إنسحبَ وكلاء الدفاع عنك في الجلسة المنصرمة نتيجة وضعِك الصحّي، ولاحقاً اشترَطوا نقلك إلى سجن روميه، وتمّ ذلك. ألمسُ مماطلة متعمَّدة، أنتَ من يتحمّل مسؤولية تأجيل الجلسات ومصير رفاقك».
إحتدام النقاش
وهنا علت صرخة بعض المحامين الذين وجَدوا في تعاطي وكلاء الدفاع عن الأسير عرقلةً لمسار العدالة ولملفّات موكّليهم، معترضين على التأجيل المجحِف بحقّهم، ومطالبين بفصلِ الملف أو قبول إخلاء سبيل مَن لا علاقة لهم بالأحداث.
لكنّ إبراهيم أكّد إصرارَ المحكمة على الإسراع في الجلسات والبتّ في الملفات من دون فصلها، نظراً إلى «أنّ الأسير بمثابة الرأس في الملف، وكلّ العناصر مرتبطة به»، مؤكّداً بنبرةٍ حاسمة «إنّ المحكمة لن ترضخ للضغوط تحت أيّ طائل».
وطلبَ الأسير الكلام، سائلاً: «هل استُدعيَ أحد من الذين شهدوا أنّ «حزب الله» هو من كان يدير المعركة؟»، معتبراً «أنّه لا يمكن السير في محاكمة شباب الأسير مع تجاهلِ الجهة التي أدارَت المعركة، وإنْ كان لا بدّ من المحاكمة لفصلِ ملفّهم عن ملفي».
وتمسَّك الأسير بالتزام الصمت وبموقف وكلائه، ما أثارَ اعتراضَ بعض الموقوفين الذين أكّدوا عدم معرفتهم به. بالمقابل انبرى الموقوف محمد صلاح الذي أعلنَ عن دعمه له: «أنا مع الأسير بِنطُر الإخبار لو بقِيت 10 سنين موقوف»، مشيراً إلى أنّه مصاب برصاص من «حزب الله» في بطنه، قبل أن ينتهرَه زميله ليسكت.
وأخَذ ممثّل النيابة العامة القاضي هاني الحجار الكلام، مخاطباً الأسير: «إذا كان لديك معلومات عن جهات أو أشخاص شاركوا في المعركة، عليك الإفصاح عنها. إخبارُك مجرّد ورق، وعليك أن تثبت ذلك، وكلّ من تَذكرهم سيُستجوَبون، سواء اقتنعَت المحكمة أم لا، نحن نريد أن نسمع وجهة نظرك». إلّا أنّ الأسير ظلّ متمسكاً بصمته ومقتنعاً برأي وكلائه. أمّا إبراهيم فأكّد أنّ المحكمة لا تظلم أحداً ولن ترضخ للضغوط، وإلّا تكون سابقةً لا يعود بمقدور أحد أن يوقفها»، قبل أن يعلن إرجاءَ الجلسة إلى 18 تشرين الأوّل.
ريحة تسوية!
أثارَ تصرّف وكلاء الأسير ومماطلتهم العلنية نقمةَ بعض المحامين. في هذا السياق أعربَت المحامية عليا شلحا عن تضرّر عدد من الموقوفين وتأخُّر البت بمصيرهم نتيجة التأخير: «توقّعنا تأجيل الجلسة، بعدما لوَّح وكلاء الأسير بالتريّث لمعرفة ما سيَحمله الإخبار من نتائج، ولكن لم نتصوّر أن يتغيّبوا كلّياً عن الجلسة ويؤخّروا ملفّات موقوفين انتظروا طويلاً الفرَج».
وأضافت في حديث لـ«الجمهورية»: «كان بوسعِ الوكلاء الدخول والتعبير عن طلباتهم للمحكمة، فمِن غير المنطقي تعطيل العدالة، أخلاقيات المهنة لا تسمح باستنكافهم إلّا إذا ارتكبَت المحكمة إجراءً ما بحقّهم». وذهبَت شلحا أبعد من ذلك: «حتى وإن تمّ المضيّ قدماً في الإخبار لا بدّ أن يتمّ في دعوى مستقلة، وأن يتمّ استكمال جلسات ملف عبرا على نحو طبيعي قانوني، التزاماً بأصول المحاكمات وآداب المهنة».
أمّا وكيل الدفاع عن شهداء الجيش المحامي الدكتور زياد بيطار، فأعربَ لـ«الجمهورية» عن سخطِ الأهالي، مؤكّداً «أنّ المساومة على دماء شهداء الجيش من المستحيلات، لن نسمح للسياسيين بتمريرها، وقد ارتسَمت ملامح التسوية من خلال تسليم بعض الأشخاص الإرهابيين، للأجهزة الأمنية، وبسِحر ساحر يتمّ إخلاء سبيلهم أو محاكمتهم على نحو مخفّف، هل يجوز لقاتل الجيش أن يُسجَن 6 أشهر أو يَخرج بغرامة ماليّة؟».
وتابع: «التسوية لن تمرّ. المحاصصة السياسية لن نقبل بها، التأجيل المتعمَّد غير قانوني. هل المقصود نهر بارد ثانٍ؟ أهالي الشهداء ضحّوا وقدّموا الغالي، لذا لن يسكتوا بعد اليوم، وتحرُّكنا في تشرين لن يكون أقلّ ممّا شهده أيلول».
ماذا تُعدّ المحكمة؟
جلسة بعد أخرى، يتبيّن أنّ فصلَ الملف الأساسي إلى ملفّين، الذي اعتمده إبراهيم بعد إلقاء القبض على الأسير، لم يكن صدفةً أو على نحو عشوائي، إنّما في طيّاته سابقُ تصوّر وتصميم.
في هذا السياق، يوضح المصدر الأمني «أنّ ما يحدث يُظهر حقيقة جدّية المحكمة في السير في الجلسات، وما تعرّضَت له من تُهم بالمماطلة ليس إلّا ثرثرةً وتلفيقاً، بعدما تبيّنت الجهة التي تهوى المماطلة»، مؤكّداً «أنّ فصل ملف الأسير عن سائر الملفات يشكّل ظاهرةً خطيرة، وقد يثير شهيّة غيرِه من الموقوفين لاحقاً».
واعتبَر المصدر أنّ «التذرّع بالمماطلة وربطَ قضية الأسير بالحديث عن صفقة تبادُل قيد الإعداد مجرّد أوهام يبثّها أحد وكلاء الدفاع عنه، كزوبعةٍ في فنجان».
وردّاً على موقف المحكمة في ما لو بقيَ وكلاء الدفاع على اعتكافهم والأسير على صمته، قال المصدر، بيدِ المحكمة أكثر «من قنبلة تفجّرها، أوّلها تأجيل الجلسات بفترات متقاربة، متتالية بفترة أقل من 10 أيام»… ويبقى 18 تشرين الأوّل لناظرِه قريباً.