كتب غسان سعود في صحيفة “الأخبار”:
قبل بضعة أشهر، كان النائب السابق نجاح واكيم يتحدث في مكتبه بإسهاب عن كيفية اختبار الأميركيين لمزاج الرأي العام و”تفقيسهم”، هنا وهناك، مجموعات تتناغم مع “المزاج العام”، مؤكداً أن أكثرية الذين حكموا بعد الحرب الأهلية اللبنانية هم غير من خاضوا هذه الحرب. ولا شك، يتابع واكيم، أن مراكز الاستطلاع أنبأت المعنيين بالملف اللبناني في الإدارة الأميركية أن صلاحية ثوارهم قد انتهت، فدفعوا في اتجاه أدوات أخرى. وسواء كان تحليل واكيم مصيباً أم لا، يبدو واضحاً أن هناك ثلاثة أفرقاء كانوا يلتصقون بالحريرية السياسية افترقوا عنها وابتدأوا الهتاف في وجهها: “طلعت ريحتكم طلعت ريحتكم”، هم: وزير العدل المستقيل أشرف ريفي، النائب سامي الجميل ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.
كثيرون لا يرون في اللواء أشرف ريفي أكثر من سياسيّ متشدد يزايد على الرئيس سعد الحريري في التصعيد ضد حزب الله والنظام السوري وولاية الفقيه والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في حال اضطره الأمر. إلا أن ريفي، في الواقع الطرابلسي، أكثر من ذلك بكثير: هو المناضل من أجل حرية بلده.
هو من يقفز عن كرسي المناصب و”يلبطه” بدل التمسك به. هو من يتواصل مع نشطاء المجتمع المدني ويحاول التنسيق معهم. هو من يقول إن الانتخابات البلدية أهم من الانتخابات النيابية بحكم قدرات البلدية الإنمائية والخدماتية. وهو القريب من المواطنين ويكاد لا يمضي يوم من دون أن يوطد علاقته بعشرين منهم على هامش الواجبات الاجتماعية. وهو المتشدد حيث يستوجب الأمر تشدداً والمنفتح جداً حيث يستلزم الأمر انفتاحاً. فالمطلوب حالة سياسية تعبّر عن غالبية أطياف المجتمع كما كان تيار المستقبل عام 2005، لا حزباً أو زعامة تعبّر عن مجموعة منتفعين أو متشددين أو مرتشين.
وهكذا تراه متنقلاً بين حي وآخر متحدثاً عن الأوضاع الاقتصادية الضاغطة مع من يعانون من هذا الضغط، وعن وجوب إنعاش سوق المدينة مع أهل السوق، وعن أهمية إيجاد فرص عمل مع من لا يجدون عملاً وعن تخفيف العوائق البيروقراطية وغيره وغيره، من دون تفويت أية مناسبة اجتماعية دون حضوره ساعة وساعتين وثلاثاً، فيما يرسل السياسيون الآخرون ممثلاً عنهم يمضي متبرماً بضع دقائق ويرحل. علماً أن ريفي يعتبر أن التلفزيون وسيلة مهمة للتواصل مع الرأي العام لكن هناك عدة وسائل أخرى تعمل بموازاتها جنباً إلى جنب مثل مواقع التواصل الاجتماعي والإذاعات والصحف المناطقية والأهم من هذا كله هو التواصل المباشر مع الرأي العام، فيما يتسمر آخرون في علبة التلفزيون أو حساب تويتر.
بدوره ما كاد النائب سامي الجميل يستريح في مكتب والده الذي تزينه صورة جده في مقر حزب الكتائب في الصيفي حتى بدأت تصله التقارير عن وجوده في مكان، فيما المواطنون في مكان آخر. وعليه بدأ إعداد ملفات الفساد في عدة قطاعات حيوية في البلد معتقداً أن مناقشتها في اللجان النيابية سيكون أمراً كافياً لتبرئة ذمته أمام الرأي العام. لكن سرعان ما بينت الانتخابات البلدية، بعد الحراك الشعبي، حجم الهوة الشعبية بين الرأي العام وأحزابه. فما كان منه سوى اللحاق بريفي في الطلب من وزرائه الاستقالة فوراً لأن المزاج الشعبي ما عاد يحتمل وزيراً كالوزير سجعان قزي رغم الاقتراحات الإيجابية التي يتقدم بها بين وقت وآخر. وعليه كان لازماً الذهاب أبعد، ولو دون خطة بديلة وجدول أعمال تصعيدي واضح وحملة منظمة، فعاد سامي 2016 إلى سامي 2003 و2004 و2005 في حمل حقيبة التخييم والخيمة ومغادرة المنزل. وما حديثه عن سوكلين ومجلس الإنماء والإعمار وهجومه على الوزير أكرم شهيب سوى محاولة للقول إنه شيء والطبقة السياسية شيء آخر. علّ الرأي العام في قرفه من السياسيين يقول “كلهم يعني كلهم، ما عدا سامي الجميل”. ولن يقف الأمر هنا طبعاً فهو سيزايد أكثر فأكثر في ملفات حياتية في الأيام المقبلة، وهو يبحث عن أحمد قعبور ونادين لبكي متنيين لتكتمل معه الصورة.
ولم يكن ينقص والحال هكذا سوى لحاق رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بالموضة الجديدة. فبعيد الانتخابات البلدية الأخيرة التي اهتز فيها معقل القوات اللبنانية الرئيسي في بشري لكنه لم يقع بدأ جعجع نهجاً سياسياً جديداً يسحب التكليف المطلق لزوجته النائب ستريدا جعجع في إدارة ملفات بشري ويحضر هو أكثر. فالإعلام تحدث عن مهرجانات ستريدا أو مهرجانات الأرز الدولية فيما هي كانت عملياً مناسبة لبقاء جعجع في بشري عدة أيام وصل خلالها ما انقطع بين زوجته وكثيرين. وحتى بعد انتهاء المهرجانات فوجئ أهل بشري بعودته مراراً وتكراراً تحت حجج مختلفة. فسمير جعجع الجديد لديه الوقت للمشاركة في “وضع حجر الأساس” لمشروع مكننة بلدية بشري. في ظل تحويل القوات هذا الحدث العادي إلى احتفال جامع لكل فعالياتها في بشري تقريباً. وقد حرص رئيس بلدية بشري فريدي كيروز على الإشارة مراراً إلى أن مجلس بلدية بشري يتألف من “18 شاب وصبية”. وبدوره، لم يكتف جعجع بالحضور إنما حرص على إلقاء كلمة بدأها بتوجيه تحية “كبيرة جداً للشيخ منير بركات رحمة الذي بقيت البلدية تتنقل من طابق سكني إلى آخر حتى أمن من ماله الخاص بناء هذا القصر البلديّ”، وهي إشارة عرضية لمن لا يعرف بشري وجعجع لكنها تؤشر عملياً إلى حجم اهتمام جعجع باستيعاب الجميع والتفاته إلى التفاصيل الصغيرة التي تعانيها الفعاليات المناطقية. وهو تبعها بتحية مباشرة أيضاً إلى الأخوين إدكار وزياد طوق اللذين يديران شركة مكننة البلدية. وهو حين حيّا البلدية الحالية، توقف ليشكر البلديات السابقة التي أعطت قدر استطاعتها. وهي أيضاً وأيضاً خطوة استيعابية ذكية. وسمير جعجع الجديد يخرج من احتفال في بلدية بشري ليدخل آخر في بلدة بقاعكفرا أيضاً، حيث يقول من شارك في احتفال تدشين المبنى البلديّ أنه صافح الموجودين واحداً واحداً، سائلاً عما يتعبهم ويشغل بالهم. وهنا أيضاً كانت له كلمة استهلها بمقدمة عاطفية طويلة، قال بعدها إن القصر البلديّ ما كان ليكون له قيمة لولا الورشة الإنمائية الكبيرة الحاصلة في البلدة. وفي محاولة واضحة لزرع الشعار في رؤوس المستمعين يقول جعجع لجمهوره إنهم حين يريدون إعطاء مثل عن نائب نشيط، يقولون انظروا ماذا فعلت ستريدا جعجع في بشري. في وقت تنشط ماكينة القوات في تعداد ما أنجز والإشارة إلى مشروعين كبيرين مقبلين هما المسلخ العمومي ومعمل فرز النفايات ومعالجتها. نزل جعجع إلى معراب بضعة أيام وعاد مجدداً ليجول مع زوجته وفعاليات من بشري في وادي قاديشا سبع ساعات، لماذا؟ للقول لأهالي القضاء إنهم يضعون اللمسات الأخيرة على خارطة طريق لإعادة تأهيل الكنائس والجداريات والطريق الرئيسي للوادي. وكانت “الصدفة” قد أوصلت جعجع وزوجته إلى تجمع لكشافة مار يوحنا مارون ــ فرع بشري كانوا يخيمون في الوادي فأمضيا معهم بعض الوقت.
وتظنه تعب لكنه لا يتعب. فعائلة الطفل مارون طوني طوق كانت تحيط به داخل الكنيسة لتحتفل بمعموديته حين فاجأها جعجع بوصوله، قائلاً: “بدّي كون العرّاب. ما أنا صهر العيلة”. وما كاد الاحتفال الكنسيّ ينتهي حتى انطلق جعجع حاملاً الطفل سيراً إلى منزل العائلة الذي يبعد بضع دقائق كان جعجع يلوح لمن يحيونه ويقترب ليسلم عليهم. وفي خطابه الأخير في ذكرى “شهداء قوات” بدت واضحة معالم جعجع الجديد الذي يظن من يسمعه أنه أمام أسعد ذبيان أو لوسيان بو رجيلي، فيقول بأسى ولوعة إن “الحياة السياسية المعدومة وسلسلة الأزمات اللامتناهية من النفايات الى الاتصالات وما بينهما من وضع اقتصادي ومعيشي صعب” جعلوه يتوقف أولاً عند المواطن الصابر: “المحروم من أبسط حقوقه بحياة كريمة ومأكل وملبس ومسكن وسرير في المستشفى إذا مرض”. حتى الوزير السابق شربل نحاس يكاد يفكّر بالانتساب إلى القوات حين يسمع هذه اللوعة العاطفية كلها. وعلى نسق ريفي وسامي، يسأل جعجع عن الجدوى من الرئيس والوزراء والنواب إذا كانت أصواتهم مخنوقة، تجنباً لمشكلة في البلد.
ويؤكد أن بعض الملفات لا تتحمل أنصاف حلول، مشيراً إلى ابتلاء الدولة بعطب استراتيجي يتمثل بـ”فساد ما بعده فساد ينخر كل مفاصل الدولة”. وفي تبنٍّ كامل لخطاب “بدنا نحاسب” هذه المرة يأسف رئيس القوات لأن “أكثريّة الأجهزة الرقابية معطّلة، وأكثريّة القضاء معطّل”، واعداً جمهوره بـ”حرب بلا هوادة على كل شيء اسمه فساد في لبنان”.
ثلاثي ريفي ــ سامي ــ جعجع يتقاطعون في الشكل مع “بيروت مدينتي” طبعاً لكنهم في مضمون حركتهم وخطابهم السياسي أقوى من ذلك بكثير. فهم أولاً يسحبون بساط محاربة الفساد من تحت المجتمع المدني وبعض المنظمات الشبابية وبقايا الحراك. إلا أن الأهم يكمن في محاصرتهم ثانياً لتيار المستقبل وتوجيه ضربات موجعة له. فريفي يحصر لعبه حتى الآن في ملعب المستقبل؛ لا يعنيه المستائون من النائب نجيب ميقاتي أو زميله محمد الصفدي، كل تركيزه ينصب على اصطياد من يمكن اصطيادهم من المؤيدين لتيار المستقبل حصراً. ولعل المشهد الطرابلسي مزدحم فيما هو هادئ في البقاع الغربي ويمكن اليوم رصد ريفي يؤسس مجموعة تؤيده في كل بلدة تتألف من ناشطَين أو ثلاثة سابقين في تيار المستقبل، في ظل خشية الحريري الكبيرة من تدخل ريفي في انتخابات المستقبل الداخلية وخروج المجموعات المدعومة منه منتصرة في آخر اليوم الانتخابيّ بحكم امتلاكه المال والماكينة فيما لا يمتلك منسق تيار المستقبل أحمد الحريري لا هذه ولا تلك. أما سامي الجميل فيهاجم دون هوادة سوكلين ومجلس الإنماء والإعمار وهما مؤسستان حريريتان في نظر الرأي العام الذي لا يعلم أن غالبية القوى السياسية تستفيد منهما. بدوره “يلطش” جعجع حلفاء التيار الوطني الحر لكنه يحرج الحريري أولاً وأخيراً في بندين وجوديين بالنسبة إلى تيار المستقبل: الأول هو انتخاب العماد ميشال عون رئيساً، والثاني هو الإصرار على إقرار قانون انتخابات جديد، علماً أن قانون الستين هو افضل قانون بالنسبة إلى تيار المستقبل وأي قانون آخر سينتقص حتماً من كتلة المستقبل النيابية.