كتبت لينا فخر الدين في صحيفة “السفير”:
على أعتاب انتهاء الحرب الأهليّة في العام 1987، ترك يوسف فخر (مواليد 1961) الـ200 عنصر المسؤول عنهم في «الحزب التقدمي الاشتراكي» في بيروت، وحزم أمتعته متوجِّهاً إلى أميركا، حيث تزوّج أميركيّة لمّدة ثلاث سنوات واستفاد من منحه الإقامة الدّائمة ثمّ الجنسيّة.
حينذاك، استراح أبناء رأس بيروت من «رعب» المسؤول العسكريّ «الاشتراكيّ»، الذي كان مجرّد التلفّظ باسمه أمامهم يستدرج الكثير من الصور السوداء.
ظنّ عارفو «الكاوبوي» أنّ الرّجل سيتغيّر في المهجر بعد أن خلع الثياب العسكريّة وامتنع عن زيارة لبنان باعتباره كان مطلوباً للمخابرات السوريّة في تلك المرحلة.
غاب اسم يوسف فخر 29 عاماً كاملةً عن أذهان البيروتيين، حتّى عاد فجأة إلى الواجهة. «صيت» المتّهم بالقتل لم يتغيّر. التغيّر الوحيد هذه المرّة هو لمصلحة من بات يعمل «الكاوبوي» ومن هي ضحيّته التالية.
المفاجآت كشفتها التحقيقات مع فخر في المديريّة العامّة للأمن العام التي استدعته للتحقيق بتاريخ 18 تمّوز الماضي، ثمّ ما لبث أن تمّ توقيفه وأحيل إلى قاضي التحقيق العسكريّ الأوّل رياض أبو غيدا الذي أصدر، أمس، قراره الظنيّ، متّهماً فخر بموادَّ تصل إلى الإعدام.
وفي مضمون هذا القرار، فصّل أبو غيدا الكثير من التفّاصيل عن جرائم «الكاوبوي» ما بعد الحرب، إلى حدّ أنّ «الريّس» اضطر، ولتعداد مواضيع إفادة فخر، أن يستعرضها كلّ على حدة. فالموقوف لم يعد يعمل لمصلحة «الحزب التقدمي الاشتراكي»، بل انقلب عليه. وما إن أتته الفرصة حتّى خطّط لاغتيال رئيسه السّابق النائب وليد جنبلاط وتشكيل مجموعات مسلّحة من البيئة الدرزية وخارج عباءة «البيك»!
هكذا انتقل «الكاوبوي» من العسكر إلى الأمن، و «شبّك» مع الكثير من أجهزة المخابرات. فالرجل الذي استعاد علاقته مع المخابرات السوريّة التي منعته سابقاً من المجيء إلى لبنان لحوالي الـ24 عاماً (أتى إلى لبنان في المرّة الأولى في العام 2011، أي بعد الانسحاب السوري بسنوات)، ليس مستغرباً عليه التّعامل مع «الموساد» الإسرائيليّ.
علاقته بالعدوّ لم تكن عبر ضابط صغير، بل اختار فخر أن يفتح خطّا سريعاً عبر مستشار رئيس الوزراء الإسرائيليّ والمسؤول عن ملفّ دعم المعارضة السوريّة المسلحّة: السوريّ الأصل منذر الصفدي المعروف بـ «مندي الصفدي»، الذي كلّفه بتجنيد أشخاص لمصلحة «الموساد» ودعم المجموعات الإرهابيّة في سوريا، وحتّى السيطرة على طرق لبنانيّة ودوليّة من أجل مدّ هؤلاء بالسلاح والعتاد!
ولا يتوقّف «بروفيل» فخر الأمني على السوريين والإسرائيليين فحسب، وإنّما تعدّاه إلى المجموعات السوريّة المسلّحة، وصولاً إلى المخابرات الأميركيّة الـ «أف. بي. آي» عبر الضابط الأميركيّ تيم هانت الذي كلّفه بجمع معلومات أمنيّة، وعبر ناجي النّجار الذي عمِل كمستشارٍ لأحد كبار ضبّاط الجيش الأميركيّ المتقاعدين الجنرال فاليلي.
وكان النجّار الذي يحمل الجنسيّة الأميركيّة باسم «مايك ريتشارد ستيفان» من «خصوم الكاوبوي» سابقاً، باعتباره كان مسؤولاً في «القوات اللبنانيّة» في زحلة قبل أن ينشقّ عن إيلي حبيقة ويلتحق بسمير جعجع مشاركاً في القتال خلال الحرب الأهليّة.
رواية اغتيال «البيك»
ما كُلّف به «الكاوبوي» لا يعد ولا يحصى، إلّا أنّ أهمّه يبقى اغتيال جنبلاط. وبدا واضحاً أنّ الرّجل يريد الثأر من مسؤول حزبه السّابق وكل الأشخاص المقرّبين منه وأبرزهم عضو مجلس القيادة في «الاشتراكي» حالياً نشأت أبو كروم.
حصل ذلك حينما أعاد فخر وصل ما انقطع مع مهنّد موسى (منشقّ عن النظام السوريّ ويعمل مع المعارضة السورية ويتواجد حالياً على الأراضي التركيّة، فيما لم يفصح فخر عن انتمائه السياسيّ خلال التحقيقات)، الذي نشأت بينهما علاقة صداقة حينما كان الأخير عنصراً في المخابرات السوريّة إبّان الوجود السوريّ ومقرّباً من رئيس جهاز الأمن والاستطلاع اللواء غازي كنعان.
وعندما عاود الرجلان محادثاتهما في بداية العام 2016، أخبره موسى أنّه على علاقة جيّدة مع مُضر وريبال رفعت الأسد، مضيفاً إنّ ريبال مقيم خارج سوريا وعلاقاته جيّدة مع الأميركيين، وسيكون له دور في سوريا خصوصاً أنّ الرئيس السوريّ بشّار الأسد «لن يبقى في السّلطة».
أمّا مُضر، فهو في سوريا ومقرّب من الرئيس السوريّ، بحسب ما قال موسى الذي نصح فخر بأن يؤسّس لعلاقة مع الاثنين حتّى يكون من الرابحين في أي تطوّر داخل سوريا (إيحاء بان مُضر عميل مزدوج).
كما أبلغه موسى صراحةً بأنّ «جنبلاط لن يبقى على قيد الحياة، بل سيتمّ اغتياله قبل شهر تشرين الأوّل من العام 2016، لأنّ السوريين غير راضين عنه والروس تخلّوا عنه»، ليردّ فخر قائلاً: «بدكن تروّحُوا رَوحُوا».
وخلال التّحقيق معه أمام القاضي أبو غيدا، حاول «الكاوبوي» التملّص من التّهمة، قبل أن يقوم «الريّس» بمواجهته بالرسائل الالكترونية التي سبق له أن أرسلها إلى موسى، وفي مضمون إحداها: «يوماً ما سآخذ بالثأر ممّن كان السبب بخروجي من لبنان وبقائي 30 عاماً في الخارج».
ارتبك «الكاوبوي» ليعود ويعترف أنّه فعلاً يقصد بهذه الرسائل جنبلاط والأشخاص التابعين له ومن بينهم نشأت أبو كروم.
التحالف مع الشيطان
ويبدو جليّاً من اعترافات فخر أنّ «عصبيّته الدرزيّة» وهواجسه من مصير الدروز نتيجة الأحداث السوريّة، قادتاه إلى «التّحالف مع الشيطان».
ففي العام 2012 وبعد أن اتّفق مع الـ «أف. بي. آي» عبر ناجي النجّار على ضرورة تشكيل مجموعات مسلّحة من البيئة الدرزيّة خارج عباءة جنبلاط، حطّ «الكاوبوي» في مطار بيروت، ليبدأ بالاتصال ببعض العناصر الذين كانوا في «الاشتراكي» بغية إقناعهم بالانضمام إلى تلك المجموعات.
أمّا أهدافه فكانت الدّفاع عن المناطق الدرزيّة ضدّ أي اعتداء خصوصاً من «حزب الله»، السيطرة على طريق الشام ـ بيروت وطريق راشيا ـ عين عطا، والقرى الدرزيّة المحاذية لجبل الشيخ من ينطا حتّى كفرقوق وعين عطا. كلّ ذلك من أجل تأمين ظهر المسلّحين السوريين المتواجدين في جبل الشيخ من النّاحية السوريّة، وإمدادهم بالمقاتلين والسّلاح من الدّاخل اللبنانيّ، وتأمين ممر آمن لهؤلاء للانتقال من جنوب غرب سوريا إلى الغرب السوريّ بكامل عتادهم.
ولهذا الهدف أيضاً، تواصل «الكاوبوي» مع الضابط السوريّ المنشقّ رياض الأسعد، بعد نصيحة من النّجار، عبر «سكايب» ونسّقا الخطوات العملانيّة التي سرعان ما توقفت بسبب تسارع الأحداث السوريّة وتمركز «حزب الله» على الحدود السوريّة.
ومن خلال «عرّابه» النجار، بدأت المحادثات عبر «سكايب» بين «الكاوبوي» ومندي الصفدي بشأن وجوب تأمين السّلاح والذخيرة للمسلحين عبر الجولان المحتلّ، خصوصاً للدروز المتواجدين على حدود فلسطين المحتلة لحماية أنفسهم من هجمات «جبهة النصرة» و«داعش».
كما استطاع فخر وبناء لأوامر الصفدي تجنيد السوري هيثم القضماني المقيم في أميركا. وصار الأخير ينسّق مع الصفدي الذي عرّفه على حمود خالد عوض. وبهدف شراء أسلحة من لبنان ثمّ إرسالها إلى سوريا، سلّم القضماني مبلغ 185 ألف دولار إلى عوض، فيما قام الأخير بالاستيلاء على المال من دون شراء السلاح، بحسب ما قال فخر.
وإذا كان هذا التنسيق لم يرَ النّور، فإنّ «الكاوبوي» نجح في التنسيق مع الأخوين محمّد النعيمي وأبو حسين النعيمي (يُعتقد أنّه أمير «جبهة النصرة» في درعا والذي قتل على يد «الجيش السوريّ الحر» منذ عامين وكان أحد البارزين في تصنيع العبوات الناسفة)، اللذين كانا يحتجزان 18 جندياً من الطائفة الدرزيّة.
وتمكّن بعد أن عرفّه عليهما مندي الصفدي أن يقنعهما في ترك الجنود مقابل مدّ جماعة الأخوين النعيمي بأجهزة كمبيوتر وكاميرات «ديجيتال» حديثة.
أمّا عن علاقته بالضابط الأميركي تيم هانت والذي كان يتواصل عبر البريد الالكتروني «[email protected]»، فإنّها توطّدت بعدما أبلغته السفارة الأميركيّة في بيروت أنّه مطلوب للتحقيق فور وصوله إلى مطار بوسطن في العام 2012. سريعاً، تواصل «الكاوبوي» مع النجّار الذي أعطاه رقــم تيم هانت، قبل أن يسافر ويتمّ التحقيق معه في أميركا عن سبب زياراته المتكرّرة إلى لبنان ثم يطلق سراحه.
وبعد ذلك، توطّدت علاقته بهانت الذي كلّفه بجمع معلومات عسكريّة من دون أن يفصح عن ماهيّتها.
وإثر إلقاء القبض على فخر، ضبط بحوزته 12 هاتفاً خلوياً، بالإضافة إلى قرص مدمّج يحتوي على تسجيلات لأسرى سوريين في السويداء ورسائل إلكترونيّة.
الأحكام القانونيّة
ولجهة كلّ ما أورده، اتّهم القاضي أبو غيدا في قراره الموقوف فخر بمواد تصل إلى الإعدام، وذلك بعدما ثبت من الرسائل الالكترونيّة التي تبادلها مع المدّعى عليه مهنّد موسى أنه عازم على الثأر ممّن تسبب ببقائه 30 عاماً خارج لبنان ثمّ اعترف بذلك صراحةً خلال التحقيق، بالإضافة إلى إجابته «بدكن تروحوا روحوا».
وأكّد أبو غيدا أنّ «عناصر النيّة الجرميّة متوافرة لدى المدّعى عليهما، وتعتبر الرسائل الالكترونيّة من الأعمال التحضيريّة لتنفيذ الجريمة». وخلص إلى اعتبار فعل فخر وموسى منطبقاً على المادة 549/200 عقوبات (أي القتل القصديّ مع البدء بأفعال ترمي مباشرةً الى اقتراف هذه الجناية والتي تصل عقوبتها إلى الإعدام أو تخفيفها إلى الأشغال الشاقّة المؤبّدة)، معطوفة على 24 قضاء عسكريّ.
أمّا لجهة تشكيل مجموعات مسلّحة، أشار أبو غيدا إلى أنّ فخر توافق مع النجار على هذا الأمر وبدأ بالفعل بالتخطيط للتنفيذ وتحديد الأهداف لهذه المجموعات التي ترمي إلى السيطرة على مناطق لبنانيّة وطرق دوليّة، إلا أن ظرفاً خارجاً عن إرادته أوقف التنفيذ ليكون فعلهما منطبقاً على المادة 335 عقوبات معطوفة على المادة 24 قضاء عسكريّ.
كما اعتبر أبو غيدا أنّ أفعال فخر والقضماني وعوض لجهة تواصلهما مع مندي الصفدي ووجود رسائل معه لدعم الثورة السوريّة، تنطبق عليها المادّة 335 و316 مكرّر عقوبات و72 أسلحة معطوفة على المادة 24 قضاء عسكريّ. بالإضافة إلى اعتبار تواصل اللبنانيين فخر وحمود مع الصفدي تنطبق عليه المادة 285 عقوبات معطوفة على المادة 24 قضاء عسكريّ.
فيما قرّر أبو غيدا منع المحاكمة عن فخر لجهة دعمه الجماعات المسلّحة بأجهزة كمبيوترات لأنّه لم يثبت أنّه نفذ وعده، ولجهة جمع معلومات لمصلحة الضابط تيم هانت لأنّه لم يقترن بأي عمل تنفيذي أو تحضيري.