كتب علي الحسيني في صحيفة “المستقبل”:
لا يختلف إثنان على حجم المخاطر التي تتهدد لبنان اليوم من جرّاء الانقسامات السياسيّة الحاصلة فيه وعلى رأسها ملف رئاسة الجمهورية، تماماً كما هو حجم التهديد في المنطقة التي تشهد حروباً مذهبية وطائفية تشتعل نيرانها في أكثر من بلد عربي. وفي ظل هذا اللهيب تعمل إيران على أكثر من محور لتثبيت “إمبراطوريتها” الموعودة من خلال إذكاء نار الفتنة، سواء بشكل مُباشر منها، أو من خلال “حزب الله” الذي يخوض معارك سياسية في الداخل اللبناني وعسكرية في سوريا، وجميعها يُصنّف في خانة العمليّات الانتحارية.
واليوم، يبدو أن “حزب الله” أصبح بحاجة ماسّة وأكثر من أي وقت مضى، إلى جرعات زائدة مُخصّصة لإنعاش الذاكرة أوّلاً، وإلى جرعات إضافية من أجل إخراج نفسه من عزلته التي بدأت تنعكس سلباً في تصرفات قادته خصوصاً في خطاباتهم السياسية والتي غالباً ما تجعلهم ينزلقون بعيداً عن لغة العقل. أحد أبرز هؤلاء رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد الذي رأى بالأمس أنه “لولا وطء أقدام مجاهدينا للمواقع التي طرد منها العدو الإسرائيلي، لما كان لأحد أن يكون له دور في أن يتحدث عن سيادة أو استقلال”.
يصح القول، إن كل يوم إضافي يمر من عمر الأزمة السورية، هو بمثابة انتكاسة واضحة بالنسبة إلى “حزب الله” الذي تُثخن وتتعمّق جراحه مع كل طلعة شمس، من دون أن يتمكّن من إيجاد حل يُسهم في التقليل من خسائره والحد من الاستنزاف الذي يطاله ويُلاحقه بشكل دوري في الداخل السوري. في وقت، يُزاول فيه قادته السياسيون، “فنّ” تقطيع الوقت كما الاستحقاقات، ظنّاً بأن الغد قد يحمل ما هو أفضل لهم ولعسكرهم على حد سواء. وبين الخسائر المُتزايدة والتضليل المُستمر، يُتحف قادة الحزب اللبنانيين، بكلامهم اليومي عن السيادة وحماية الدستور وكأنهم يُريدون تحويل أنظار هذا الشعب، عن الأيدي العبثية المُلطخة بالدماء، وعن زمن القمصان السود، التي يُريد الحزب تصويرها على أنها ملاك يحرس القوانين ويحمي الدستور ويمنع الإنقلابات المذهبية التي ما زال هو بطلها منذ العهود السابقة وحتّى اليوم.
الأحداث والتطورات التي حدثت على الساحة اللبنانية منذ أن أعلن الرئيس سعد الحريري ترشيح النائب سليمان فرنجية وترشيح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع للنائب ميشال عون، جعل “المعركة” عبارة عن تنافس بين مرشحين من فريق الثامن من آذار، لكن المستغرب هو موقف حزب الله الذي اعتبر نفسه منتصراً لكنه فعليّاً امتنع في المقابل عن التصويت لأحد المرشحين. والاستغراب ثمة من يتناقله باستهجان، داخل بيئة الحزب ومن جمهوره. وهؤلاء يتساءلون عن مغذى عدم اختيار حزبهم لفرنجية، وهو الذي يجمعهم به حلف قديم، على عكس عون الذي كان يُجاهر في وقت مضى بعداوته للمقاومة وبأنه كان من الأوائل الذين طالبوا بنزع سلاحها. وفي القراءة ذاتها، يعتبر المقربون من “حزب الله”، أن قيادة الحزب ربحت بترشيح عون وفرنجية جائزة كبرى، لكن الجائزة تبقى حبراً على ورق طالما أن الحزب يُصرّ على صرفها بالطريقة الخاطئة.
من المعروف أن في علم السياسة في لبنان، ثمة باطن وظاهر، فالظاهر أن حزب الله يؤيد عون، أما في الباطن فهناك ثلاثة مرشحون هم: عون، فرنجية والفراغ، وهذا الأخير هو مرشح الحزب الفعلي واليه ينحاز في السر كونه يضع أجندة إقليمية لديه فوق الأولويات اللبنانية. وتأكيداً على خيار الفراغ الذي ينحاز اليه الحزب، يذهب النائب رعد الى حد القول “إذا أردتم رئيساً للجمهورية، فالعماد ميشال عون موجود، وإذا أردتم أن تعطلوا البلاد وتبقوا الفراغ قائماً، عليكم ألا تقبلوا به”.
بما أنه أصبح خبيراً في عمليات التفاوض التي اكتسبها في زمن الصراع مع إسرائيل وما زال يُمارسها اليوم في سوريا، يعتبر “حزب الله” أن ورقة الرئاسة اللبنانية ورقة يجب ضمها إلى ملف التفاوض بين إيران والغرب، وبالتالي فإن الإفراج عن الرهينة أي، رئاسة الجمهورية، لا يمكن أن يتم إلا بعد تحقيق مكتسبات ملموسة أقلها تعويم شرعية حليفه بشار الأسد الذي ورغم فظائعه التي يرتكبها بحق شعبه، يُصرّ الحزب على وضعه على رأس قائمة “الممانعة”.
من يستمع إلى خطابات قادة “حزب الله” المتكررة، قد يعتقد بأن ليس لدى الحزب أي هموم سوى تيّار “المستقبل”، وكأن مشاكله السياسية والعسكرية والدولية قد حُلّت جميعها. آخر ابتكارات “حزب الله” حتّى الساعة جاءت على لسان وزير الحزب حسين الحاج حسن الذي راح يُحلّل وضع البلد والمنطقة قبل أن يصل إلى خلاصة مفادها: “من الواضح أننا دخلنا في لبنان في مرحلة جديدة ومسار جديد لا يحتاج من البعض إلى تأجيج الأزمة، ولا يحتاج من تيار المستقبل إلى إدارة الظهر. بل يحتاج من تيار المستقبل أن يفك أسره من قبضة القرار السعودي المهيمن ووضع الفيتوات على الحلول في المنطقة، ومنها على الحل في لبنان”.
من يُقنع الوزير الحاج حسن وغيره ممن يدورون في فلك الحزب، أن “المستقبل” كان وما زال في طليعة الباحثين بشكل جدّي عن مخرح لأزمة الفراغ الرئاسي التي تطال لبنان كله وليس جزءاً منه، وأنه ومن باب حرصه على عدم تكريس الفراغ كأمر واقع يُريد “حزب الله” تكريسه في البلد، اختار حلاً كان من المُفترض أن يُرضي كل من يسعى إلى الهدف نفسه، لكن تعنّت الحزب واختياره طريق التعطيل من خلال تمسكه بمُرشح لم ينزل نوّابه مرّة إلى المجلس النيابي لانتخابه، حال دون الوصول إلى تحقيق حلم اللبنانيين. ومع هذا، فإن “حزب الله” سيُعاود النغمة ذاتها اليوم وغداً وبعد غد، وسيتهم “المستقبل” بالتعطيل وسيرفع سقف خطابه عالياً تحضيراً لمرحلة مُقبلة يُمكن أن تحمل له ما هو أسوأ من واقعه اليوم.