كتب فراس الشوفي في صحيفة “الأخبار”:
الشتاء الثالث على الأبواب، ومدير الأعمال السابق للنائب وليد جنبلاط السابق، بهيج أبو حمزة، لا يزال يرقد على سريرٍ في مستشفى «الحياة»، منذ توقيفه «على ذمة التحقيق» في ربيع 2014، بعد 17 دعوى قضائية بتهم اختلاس وإساءة أمانة، رفعها ضدّه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي.
لم يعد الشيخ بهيج المؤتمن على بيت المال في دار آل جنبلاط منذ منتصف الثمانينيات، بعد حوالى ثلاثين عاماً من الخدمة. اختار جنبلاط له تقاعداً مبكراً، ونال الخازن والمحاسب ومدير الأعمال بدل تعويض نهاية الخدمة، أربع عمليات قلبٍ مفتوح وستة «راسورات» في شرايين قلبه، وأكثر من ثلاث سنوات سجنية من التوقيف الاحتياطي، من دون صدور أي حكمٍ بالإدانة بحقّه، وتشويه سمعته في لبنان وخارجه.
قبل أيام من توقيفه، كان أبو حمزة لا يزال يداوم بصفته المدير العام في مقر شركة «كوجيكو» في كورنيش المزرعة. وكان الهمّ قد كوى ملامحه، وهو ينتظر نتيجة «الحلّ» الذي هندسه قريبه وجدي أبو حمزة والوزير وائل أبو فاعور، علّ الغضب الجنبلاطي عليه من شبهات الاختلاس وإساءة الأمانة يتبدّد تدريجاً مع مبادرات «حسن النيّة» التي قدّمها. لكنّ أبو حمزة لم يشكّ، للحظة واحدة، بأن «غضب السماء» قد نزل عليه من “عمودها”، وأن سليل آل جنبلاط سيـ”جرجره” أمام المحاكم، من دون أحكام لـ 36 شهراً، ومن دون عفوٍ عند المقدرة.
ولعلّ حكاية أبو حمزة قد تصلح لرواية، وهي لا تزال في فصولها الأولى. فيها تتداخل السياسة وخفايا إدارة الزعامات التقليدية، وتجارة النفط والغاز والمال وإدارة الأعمال، وهياكل الإمبراطورية المالية لآل جنبلاط والمال السياسي والحزبي ومدى التأثير السياسي في الجسم القضائي اللبناني، فضلاً عن العلاقات الشخصية، وثنائيتي الولاء والخيانة، والمجد والذلّ.
كما أنها تؤرّخ لمرحلة من سنوات الحرب اللبنانية الأخيرة ومرحلة ما بعد اتفاق الطائف من زاوية طائفة الموحّدين الدروز في لبنان، وكيفية دخول رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، بعد الحرب، شريكاً كاملاً في السياسة والمال وخدمات الدولة اللبنانية، عبر إدارة أبو حمزة وبنائه عدداً كبيراً من الشركات والمصالح المالية التي تؤمّن الدخل للزعامة الجنبلاطية. عايش بهيج أبو حمزة كلّ هذا، وتكفّل بإدارة المال للرئيس وللحزب وللأسرة وللشركات لثلاثة عقود، وتحوّل إلى “لصّ”، بنظر الزعيم، في لحظة واحدة.
وكما جنبلاط الذي يرفض الحديث عن الأمر في الإعلام كما أكّد لـ«الأخبار»، تاركاً التعليق على أي تطوّر في قضية محاسبه، للبيانات التي تصدر عن مكتبه القانوني، يرفض أبو حمزة أن ينطق بكلمة، عن السبب الحقيقي من تغيّر نظرة جنبلاط نحوه من «الأمين» إلى «الخائن»، وهو يصرّ على أنه بريء من التهم التي دحض فريق الدفاع عنه أغلبها بالحجج والوثائق. ولم توفّق «الأخبار» في الحصول على تصريح واحد من أبو حمزة على مدى السنوات الماضية، على أساس أن أبو حمزة “يعضّ على جراحه”، وهو مستمرٌ في ولائه كما أسلافه لـ«دار المختارة»، وأنه لن يقابل «الظلم الذي يتعرّض له» بتصريحات في الإعلام، علّ الحقيقة تظهر وحدها أمام جنبلاط. إذ إن إقناع القضاء بالبراءة عبر الوثائق والقرائن لا يكفي وحده لنيل البراءة والخروج إلى الحرية.
نماذج عن الدعاوى القضائية
بعد بيان مقتضب من جنبلاط في آب 2013، حول نيّته إعادة ترتيب وضع بيت ماله الداخلي، وتسريبات متعمّدة في الإعلام وداخل الحزب عن أجواء غضبٍ تلفّ قصر المختارة من أمين بيت المال، لم يتأخر مقرّبون من جنبلاط، وعلى رأسهم أبو فاعور ووجدي أبو حمزة، ابن أمين بيت المال السابق عارف أبو حمزة، الذي أُقصي من دار المختارة في ما مضى، إلى المبادرة وتطمين أبو حمزة إلى إمكانية حلّ الأزمة بـ«الحسنى». حتى إن جنبلاط نفسه، أسرّ في حينها لإعلامي بارز بأنه في صدد إقامة حفل تكريم لإنهاء خدمات بهيج أبو حمزة، تقديراً لمجهوده طوال هذه السنوات.
وبحسب رواية أحد أقرباء أبو حمزة لـ«الأخبار»، طوال شهر آب 2013، تردّد الثنائي أبو فاعور ووجدي أبو حمزة إلى منزل «الشيخ»، وأقنعاه بالقيام بإجراءات «حسن نيّة»، تبدأ بتنازله الكامل عن حصصه وأسهمه في الشركات العملاقة التي يساهم فيها ويديرها لمصلحة جنبلاط، ولا تنتهي عند تقديم استقالته من إدارة الشركات ووظائفه المتعددة فيها، بما في ذلك تعويضاته عن فترة تولّيه الإدارة. وتوّج الثنائي مبادراتهما بإقناع الشيخ بهيج بتوقيع رفع سريّة مصرفية عن كل حساباته في لبنان والخارج، وبأي صفة كان، لمصلحة جنبلاط.
نجح الثنائي في إقناع الشيخ بالملاذ الأخير. يضيف المصدر القريب من أبو حمزة: «وقّع بهيج إيماناً منه بنزاهته، وبأن جنبلاط سيعود إلى ثقته به بعد التدقيق في الحسابات والتأكد من صحتها، كما حصل في أوائل التسعينيات حين نجح المشكّكون في زعزعة ثقة البيك بالشيخ، والتي عادت وتوثّقت بعد التدقيق، وفي سنوات «العِشْرَة» التي تلتها. ولم تغب عن ذاكرته زيارة جنبلاط لمنزله للدعم والحماية، يوم بدأت النيابة العامة التمييزية في عهد رئيس الجمهورية السابق إميل لحّود تضييق الخناق على جنبلاط عبر يده المالية اليمنى بهيج أبو حمزة، الذي استدعي مراراً وتكراراً للتحقيق الطويل في أروقة قصر العدل بتهم الفساد المالي، ولم يُمسك القضاء يومها بخيطٍ يستدعي توقيفه».
وفي شهر أيلول، انهالت الدعاوى على أبو حمزة، أولاها دعوى من نادي الصفا الرياضي، الذي كلّفه جنبلاط بتولّي إدارته وتمويله، موضوعها إساءة أمانة بمبلغ قيمته 5 ملايين دولار سلم إلى أبو حمزة من آل غيث، بعد شرائهم أرض النادي من وقف الروم، كجزء من تعويض بدل إخلاء الأرض المستأجرة من قبل النادي. وسريعاً، بادر أبو حمزة إلى تقديم المستندات المثبتة لتسلّم النادي هذا المبلغ وقيده في حساباته وموازناته الموقّعة من جميع أعضاء إدارة نادي الصفا، وعلى الرغم من الرجوع عن الدعوى الموقّع من رئيس النادي في حينه عصام الصايغ، أوقف قاضي التحقيق الأوّل غسان عويدات أبو حمزة بتاريخ 7 نيسان 2014، على ذمّة التحقيق، وقد توسعت هذه «الذّمة» حتى الآن.
الدعوى الثانية كانت تلك التي قدمها جنبلاط ضدّ رجل الأعمال أبو علي بدير وبهيج أبو حمزة بتهمة الاحتيال، بدير فاعلاً، وأبو حمزة متدخلاً، على خلفية شراء جنبلاط قطعة أرض من بدير على مدخل الشوف. بعد استجواب بدير وأبو حمزة وسماع الشهود، وإثبات صحّة عملية البيع والشراء التي رعاها وموّلها بنك سوسيتيه جنرال، أوقف عويدات أبو حمزة، المتهم بالتدخل بالاحتيال، أشهراً، ولم يوقف بدير المتهم بفعل الاحتيال.
أمّا الدعوى الثالثة فقدّمها جنبلاط ضد أبو حمزة في موضوع إساءة أمانة، قال فيها إن أبو حمزة نظّم شيكات من حسابه الشخصي لعدد من الأشخاص واستولى على قيمتها. أُوقف أبو حمزة في 30 حزيران 2014، مع أن إفادات الذين نُظّمت الشيكات لأمرهم أثبتت أن قيمتها إمّا سُلمت لجنبلاط نقداً، وإمّا صرفت لمصالحه، وأهمها تسجيل 24 ألف متر مربّع على اسم شركة «الوطى العقارية» (التي يملكها جنبلاط)، في منطقة وطى المصيطبة، والتي أخلتها القوى الأمنية من سكّان «بيوت التنك» فيها بالقوّة، وتضاعفت قيمة أمتارها عشرات المرّات بعد إخلائها وهدم البيوت.
بتاريخ 20 نيسان 2015، أصدر قاضي التحقيق فادي العنيسي قراراً باسقاط دعوى شركة «كوجيكو» عن أبو حمزة، وإطلاق سراحه فوراً. فسارع محامو جنبلاط في صباح اليوم التالي إلى تقديم دعويين جديدتين أمام النائب العام التمييزي سمير حمّود. وأحال حمّود في اللحظة ذاتها هاتين الشكويين إلى قسم المباحث الجنائية، وأمره فوراً بالانتقال إلى مكان توقيف أبو حمزة واستجوابه، وتمّ توقيفه في اليوم نفسه، منعاً لتنفيذ قرار إطلاق سراحه. وتنصّ إحدى الدعويين على أن أبو حمزة أقدم على سحب شيك من حساب شركة «ليفانت أويل» (شركة نفطية كبيرة يملكها جنبلاط ويديرها أبو حمزة)، بقيمة 600 ألف دولار أميركي والاستيلاء عليه. وعلى الرغم من إبراز أبو حمزة ما يثبت أن الشيك نفسه، المسحوب من حساب «ليفانت أويل» الدائن، أودعه في اليوم نفسه في حساب شخصي مدين لوليد جنبلاط، أوقف أبو حمزة في هذه الدعوى أربعة أشهر على ذمّة التحقيق.
وتتالت الدعاوى من جنبلاط وشركاته ضد أبو حمزة، بحيث كلّما صدر قرار بإخلاء سبيله، أو منع المحاكمة عنه أو إسقاط الدعوى، يسارع محامو جنبلاط إلى تقديم دعوى في اليوم نفسه، بما يضمن استمرار توقيفه عبر النيابة العامة التمييزية، التي دأبت على توقيف أبو حمزة في اليوم نفسه الذي تقدم فيه الدعوى، بغض النظر عن مضمونها أو موضوعها، كدعاوى مالية لشركات تجارية عن حسابات لسنوات خلت، تخرج عن إطار الاختصاص المعهود لهذه النيابة، التي يفترض توليها الجرائم الكبرى، ذات الطابع العام.
وعلى هذا المنوال، بلغ عدد الدعاوى المقامة من جنبلاط وشركاته على أبو حمزة 17 دعوى، آخرها دعوى قدّمت لمنع إطلاق سراحه، يعتبرها رجال القانون «بدعة». فأبو حمزة كان يرأس مجلس إدارة «كو جي غاز»، وهي إحدى شركات الغاز التي يملكها جنبلاط واستقال من إدارتها «الشيخ» بعد مبادرة أبو فاعور وقريبه وجدي في عام 2013، وبقيت الشركة بإدارة جنبلاط ونجله تيمور، حتى تاريخه، ولا تزال قائمة. وفي نيسان 2016، تقدّم محامو جنبلاط بدعوى «إفلاس احتيالي» بوجه أبو حمزة، على الرغم من أن الشركة «شغّالة» وغير مفلسة، وأبو حمزة استقال من إدارتها منذ ثلاث سنوات، ويديرها منذ ذلك الحين جنبلاط ونجله! ومع ذلك، وعلى الرغم من عدم وجود إفلاس للقول بالإفلاس الاحتيالي، أوقف النائب العام المالي، القاضي علي إبراهيم، بهيج أبو حمزة بتهمة الإفلاس الاحتيالي!
لا خيمة فوق رأس أحد
يوم بدأت أخبار الخلاف بين وليد جنبلاط وبهيج أبو حمزة، ثمّ توقيف الأخير لاحقاً، ساد التشكيك واللوم على «الشيخ» في بيئته «الدرزية»، مع اقتناع الرأي العام الجنبلاطي بأن بهيج أبو حمزة أخطأ واقترف ما يشاع عنه من ارتكابات. أمّا اليوم، بعد 17 دعوى، وأكثر من ثلاث سنوات سجنية في التوقيف الاحتياطي، ولم يدن الشيخ بأي من التهم التي نسبت إليه، لم يعد الشكّ فيه يخالج صدور عارفيه، وأبناء بيئته، فالسارق أو المختلس لا يحتاج إلى 17 دعوى تبقيه موقوفاً احتياطياً ولا تدينه. المرتكب تكفيه دعوى واحدة تدينه وتودعه السجن لسنوات طوال. وما كان يقال همساً إن «الشيخ مظلوم»، أصبح يقال علناً، حتى إن مقرّبين من جنبلاط، وإن لم يجاهروا بآرائهم، يعتبرون أن «البيك أخطأ حين كافأ بهيج على تضحياته بالاتهام والتخوين»، وأنه «إذا وصلت علاقة البيك بالشيخ إلى هذه الحال، فلا خيمة فوق رأس أحد ولا قيمة للولاء».