IMLebanon

الحريري بلا عِدّة شغل: لا المال ولا التيّار

saad hariri 34

كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:

قد لا يكون الرئيس سعد الحريري أكثر السياسيين ارتكاباً للأخطاء. وقد لا يختلف عنهم في ارتكابها. وقد يكون أقلهم أخطاءً أيضاً بسبب وجوده مرة خارج السلطة وأخرى خارج البلاد. بيد أنه أكثرهم بلا عدّة شغل: لا المال ولا التيار.

عندما يكون في فائض قوته، يصبح الرئيس سعد الحريري مشكلة لنفسه ولحلفائه. كذلك عندما يمسي في فائض ضعفه. حينما احتفظ بفائض القوة ما بين عامي 2005 و2011، لم يفسح في المجال أمام الحلفاء لمقاسمته إياها. ومذ أن صار في المقلب الآخر من ذلك الفائض، تجاسروا عليه.

بعد عقد من الزمن هو عمر زعامته السياسية، المستمدة أولاً وأخيراً من اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، يبدو اليوم خالي الوفاض تماماً. خرج من قربه أولاً لسبب مختلف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عام 2009 غداة الانتخابات النيابية وأفقده الغالبية النيابية، ولم يعد لديه الآن سوى أن يقول له إنه حزين على ما آل إليه، متمنياً أن يستعيد الرجل موقعه وماله خصوصاً. انقلب عليه حليف آخر متين هو رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع قبل أشهر بسبب الخلاف على الاستحقاق الرئاسي. بعدما كان جعجع مرشحه عام 2014، انقلب عليه الحريري وذهب إلى خصمه السياسي النائب سليمان فرنجية، فانقلب جعجع على الانقلاب. انقلب عليه أخيراً من داخل البيت وزير العدل «المستقيل» أشرف ريفي عندما نعى حضور الحريري وقوّض صورته بعبارة أنه انتهى.

تكاد تتشابه الطريقة التي خرج بها جعجع وريفي من كنف التحالف مع الحريري، في حين أن جنبلاط ــ من غير أن يبدو أنه انقلب عليه ــ آثر الذهاب إلى وسطية لم تتوخّ التحالف مع حزب الله، إلا أنه استفاد منها. قوى 14 آذار بدورها خارت وتفككت من الداخل، وفقدت فيه المرجعية حتى.

فائض الضعف الذي بات الرئيس السابق للحكومة يشكو منه لا يقتصر على شحّ المال فحسب، بل أيضاً على فقدان الهيبة التي أضاعها داخل تيار المستقبل وفي صفوف حلفائه. فالرجل، أولاً، لم يجلس في صورة والده الراحل مرة. لم يتصرف على أن يكون ــ وقد يكون عاجزاً ــ صاحب مبادرة. عُرف عن الأب، في الرياض كما في شبكة علاقاته الدولية المتشعبة، أنه شريك في وضع قرارات أو تعديلها أو في صرف النظر عنها، بينما عُرف الابن بأنه متلقٍّ ليس إلا.

لم يُذكر مرة في أيام الأب عند اتخاذه موقفاً في الداخل أو يؤتي تحركاً في الخارج أنه قرار سعودي أملي عليه، بل أوحى على الدوام بأنه هو المبادر، فيما نُظِر إلى الحريري الابن على أنه يكتفي بما يتلقفه من الرياض. لا يسعه إقناعها بقرار، ولا المشاركة في صنع سياسات ولا التأثر فيها. لم يذهب إلى دمشق يصالح الرئيس بشار الأسد قبل أن يؤذن له بهذا التحوّل، ولا يزال يقال إن ترشيحه فرنجية انبثق من إرادة سعودية هي نفسها تحول دون تأييده انتخاب الرئيس ميشال عون. في بعض الأحيان يخذله الحظ، وفي أحايين أخرى سوء إخراجه هو موقف تلقفه على غرار تجربة ترشيحه فرنجية للرئاسة، فإذا هي تئد المبادرة قبل أن تولد.

والرجل، ثانياً، من فرط إظهاره التهذيب و«البراءة» السياسية، يبدو غريباً عن معادلة وطنية يحوط بها ملاعين السياسة اللبنانية وشياطينها. لم يتصرّف مرة على أنه القائد الفعلي لقوى 14 آذار، فإذا أقطاب هذا التحالف يكتشفون صاحب الدور الرئيسي الذي هو الرئيس فؤاد السنيورة.

أولى أزمات الحريري داخل تيار المستقبل، أنه لم يستطع جعل السنيورة الرقم 2 فيه. خلافاً لريفي الذي آثر الخروج وبالغ في تقدير صعوده وتخليه عمن يدين له بمحطات صعوده هذا كلها، تصرّف السنيورة ولا يزال على أنه حارس الهيكل والمؤتمن على تراث الحريري الأب. لا تقتصر سلطته على كتلة نواب تيار المستقبل، وفي معظمهم يتأثرون بمواقفه وخياراته وردود فعله، وهو الذي يكتب بيانات اجتماعاتهم من دون أن يتلوها، بل لا يزال يقبض على مفاصل أساسية في الإدارة والأمن والقضاء داخل الدولة منذ كان رئيساً للحكومة مرتين على التوالي ما بين عامي 2005 و2009. يكاد يكون هو ــ لا الحريري ــ صانع دولة تيار المستقبل داخل الدولة اللبنانية، من خلال شبكات معقدة من العلاقات والموظفين الكبار في الإدارات والمواقع المهمة، يحميهم داخلها وفي الوقت نفسه يتغلغل نفوذه فيها، تصل إلى حد التأثير المباشر في أروقة السرايا الحكومية، ولما يزل لديه رجال فيها.

والرجل، ثالثاً، يواجه نبرة عالية من الاعتراض على مواقفه داخل تيار المستقبل، راحت تتنامى ــ وإن ضبطت لفترة ــ على أثر ترشيحه نائب زغرتا، نجمت عن فائض ضعفه وغيابه عن البلاد ثلاث سنوات، أكثر منها فائض قوة معارضيه الذين يختفون ما إن يحضر.

ما خلا السنيورة، الوحيد الذي يُشعر الحريري بقوته داخل فريقه، يوحي عصيان ريفي بأن يلوذ يغطاء سعودي مكمّل للامبالاة الرياض حيال الحريري، سواء في تعويمه مالياً أو رد الاعتبار السياسي إليه داخل طائفته وفي موقعه السياسي. كانت الرياض في الأشهر المنصرمة، مذ طفا إلى السطح كلام عن الضائقة المالية للحريري والإهمال السعودي له، قد استقبلت شخصيات سنّية لبنانية بعضها كانت على قطيعة معها، كذلك أبرزت انفتاحها على الرئيس تمام سلام وعاملته على أنه واجهة الشرعية الدستورية اللبنانية ورأس جبل السنّة في لبنان. في المقابل، تبعاً للمحيطين بالحريري، يُعزى تحرّك ريفي وعصيانه عليه إلى علاقته المتنامية في أكثر من اتجاه وأداة بكل من قطر وتركيا، أكثر منه يستمد نَفَسَاً سعودياً.

على أن تمسك الرياض بإبقاء هذا البيت مفتوحاً، بينما صاحبه لا يزال رئيس الكتلة النيابية الأكبر عدداً، لا يفضي إلى ما يحتاج إليه الحريري فعلاً، وهو المال الذي صنع بداية صعود والده، ثم مبرر وصوله إلى رئاسة الحكومة مراراً، ومنها إلى زعامة بيروت. وهو أيضاً السلاح الذي منح الحريري الابن الغالبية النيابية في انتخابات 2009، وسخا به منذ عام 2005 كي يرسي تحالفاته الداخلية، ومكّنه من السيطرة على الشارع السنّي في كل المناطق اللبنانية ــ الأمر الذي لم يُتح لوالده حتى اغتياله ــ وثبّت شعبيته في الشارع وعلى رأس تياره العريض.