كتب سليمان نمر في صحيفة “السفير”:
لا أدري هل يدرك أصحاب القرار في السعودية، ولي العهد الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أن شركة “سعودي أوجيه” ليست مجرد شركة مقاولات، بقدر ما هي مشروع سياسي خدم المملكة لسنوات طويلة، وكانت إحدى أدوات “قوّتها الناعمة” في لبنان وفي سوريا أيضاً؟
ثمة يقين بأنّ العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدرك ذلك، ولذا أَحَب الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وكان يبدي له كل الدعم والتأييد في المملكة وخارجها.
ولذا أيضا، كان الملك سلمان ـ حين كان أميراً لمنطقة الرياض ـ من أشدّ المتأثرين باغتيال الحريري، وهو الذي نصح بأن يرث سعد الحريري والده سياسياً حينما ظهرت في الأفق بوادر خلاف بين سعد وشقيقه بهاء حول الإرث السياسيّ لوالدهما. لاحقا لم يكتف بالنصح بل كان داعماً لسعد.
أذكر أنني حين كتبتُ مقالة أنتقد فيه تحالف سعد الحريري مع الرئيس أمين الجميل ومع الدكتور سمير جعجع قابلني الأمير ـ في حينه ـ سلمان بن عبد العزيز وقال لي: “دعك من الكتابة عن سعد.. إنّه ولدنا”.
ليس خافيا على أحد أن “سعودي أوجيه” كانت إحدى أدوات القوة السعودية الناعمة في لبنان وسوريا، منذ أن قدم رفيق الحريري مبلغ 50 مليون دولار باسم الملك فهد بن عبد العزيز لمشروع إعادة تنظيف بيروت من آثار العدوان الاسرائيلي في العام 1982، وكانت دبابات العدو الإسرائيلي قد انسحبت لتوّها من العاصمة تحت تأثير ضربات المقاومة اللبنانية.
وأتذكر يوم ذهبت للرئيس الحريري لأنتقد قيام شركته بإزالة أنقاض مبنى اتخذه الاحتلال الإسرائيلي مقراً لقيادته في صيدا وفجرته المقاومة اللبنانية ـ الفلسطينية، كان ردّه: “ليفجروا كل يوم.. وأنا سأزيل أنقاض التفجير”.
كان رفيق الحريري يقدّم المساعدات للبنان باسم المملكة ويعيد إعمار بيروت ولبنان، ويعمل على حل مشاكل اللبنانيين السياسية بالمال وغيره، وفي المقابل، عوّضه الملكان الراحلان فهد وعبد الله بمنح “سعودي أوجيه” عقود الإعمار والصيانة في السعوديّة، وهي العقود التي كان لها الفضل في تحول الشركة الى أمبراطورية ماليّة خدمت طموحات صاحبها السياسية بعدما وظّف نحو أربعين ألف لبناني في شركته في السعودية كانوا يرسلون إلى لبنان سنوياً حوالي المليار دولار، بالإضافة إلى تبني نحو 36 ألف طالب لبناني للدراسة في جامعات لبنان والعالم على نفقة “مؤسسة الحريري”.
وفي الوقت عينه، تحوّل الحريري الى وسيط يساعد الإدارة السعودية في ملفات إقليمية، وهو الذي ساعد الرياض على إنجاح مؤتمر الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية.
واستخدم الرئيس الشهيد علاقاته مع سوريا وخصوصا مع الرئيس الراحل حافظ الأسد لحل أي إشكالات تواجه العلاقات السورية ـ السعودية في تلك الأيام. في كل هذا وفي غيره، كان يستخدم “سعودي اوجيه” وأموالها لتسهيل تحقيق مصالحه السياسية التي ربطها بمصالح المملكة وكان دائما لا ينكر فضلها عليها ويردد “لحم أكتافي من السعودية”.
للأسف، ها هي أمبراطورية “سعودي اوجيه” تنهار حاليا، ليس بسبب عدم دفع المستحقات المالية من قبل وزارة المال السعودية (تقدر بنحو 8 مليارات دولار) كما تقول مصادر اقتصادية في الرياض، وليس بسبب الإجراءات المجحفة التي تتعمد وزارة العمل السعودية اتخاذها ضد الشركة والتي زادت من أعبائها، فحسب, ولكنّ السبب الأساس هو التجاهل المتعمد من أصحاب القرار في المملكة إزاء أزمة “سعودي اوجيه”، حتى ان الأقاويل والشائعات تكثر حول سعي ولي ولي العهد السعودي للسيطرة على الشركة وشرائها.
كما أن “الود المفقود” بين الأميرين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان من جهة، وبينهما وبين الحريري من جهة ثانية، أدى الى إضعاف نفوذ الأخير في المملكة وصعّب بالتالي على الحريري الوصول إلى الملك سلمان وإقناعه بالتدخل، بالإضافة إلى ما يُحكى عن تعمّد ولي ولي العهد إبعاد ابن الشهيد عن الملك، بدليل أنه طلب أكثر من مرة موعداً من الملك ومن نجله وما زال ينتظر حتى الآن الجواب.
كلّ ذلك أدّى إلى انهيار “سعودي اوجيه” ونسيان دورها كواحدة من أهم أدوات القوة الناعمة للمملكة وللنفوذ السعودي في لبنان والمنطقة.
في المقابل، يتحدث بعض السعوديين في الرياض عن أنّ ارتكاب الحريري أخطاء سياسية (مثل قرار ترك بيروت سنوات عدة)، جعل المملكة لا تعتمد عليه كما كانت تعتمد على والده.. هذا الرأي يبدده سعوديون آخرون يدافعون عن سعد، ويرددون أن الرجل “مظلوم في ذلك، فأهل الرياض هم من نصحوه بترك بيروت خوفاً على حياته، وهو أدار في إحدى المرات محركات طائرته للتوجه الى بيروت ولكن هناك من منعه من مغادرة الرياض نحو بيروت”!
وحتّى لو افترضنا أنّ للحريري أخطاءه السياسية، إلّا أنّه بقي مع تيّاره، حتّى اليوم، المدافع الأول عن المصالح السعودية في لبنان.
وبرغم أنّ الرياض لا ترى ولا تجد بديلاً سنياً للحريري وتياره، إلّا أنّها تتركه يغرق في بحر ديونه ووسط عواصف الأزمات السياسية في لبنان والإقليم.
كلّ هذا يشي بأن لبنان ليس على خريطة أولويات المملكة في هذه الأيام، لا بل ثمة سياسة تخلّ سعودية عن لبنان “لأسبابٍ غير مفهومة” حتّى الآن، وإلّا لمَ لم يُعيّن سفير للمملكة في لبنان بعدما انتهت فترة عمل السفير علي عواض عسيري وغادر بيروت منذ أشهر وأحيل على التقاعد في الرياض من دون أن يعطى وقتا للقيام بزياراته البروتوكولية الوداعية على المسؤولين اللبنانيين؟
ولماذا تترك السعودية مؤسسات “المقاصد” ومستشفاها تحت طائلة الديون، فيما هذه الجمعية البيروتية معروفة تاريخياً بأنّها تحت الرعاية السعودية، حتى أن “دار الأيتام الإسلامية” التي تموّلها السعودية أيضا تم التخلي عنها سعوديا.
وبالتالي، هل كلّ ما يحدث هو ـ كما يُقال ـ معاقبة للبنان لأنه أصبح تحت نفوذ “حزب الله”، وبالتالي نفوذ سوريا وايران، ومعاقبة للسنّة “الذين لم يقوموا بواجبهم لوضع حد لنفوذ “حزب الله”؟
طبعاً هذا منطق خاطئ ولا يبرر سياسة التخلي عن لبنان.. والمصلحة السياسية للمملكة التي تخوض سلسلة صراعات في المنطقة، تتطلب أن تعزز نفوذها ووجودها في لبنان لا أن تجعل “سعودي اوجيه” تتدهور وتترك حلفاءها التاريخيين في لبنان كالأيتام، في الوقت الذي هي بحاجة إليهم وهم بحاجة إليها.