كتب رولان خاطر
في إحدى جولاته على بلدات عاليه في العام 2014 تحدث النائب وليد جنبلاط عن تسوية رئاسية عمادها المختارة وعين التينة والضاحية، ولاحقاً، ومنذ دعوات رئيس مجلس النواب نبيه برّي المتكرّرة لجلسات تشريعية العام الفائت، تكوّن ما يشبه التحالف الثلاثي عماده جنبلاط – برّي – الحريري، بوجه “المكوّن المسيحي” الرافض لهذه الجلسات إلا بشروط، ليسري هذا التحالف في ما بعد على موضوع رئاسة الجمهورية.
معادلات وسيناريوهات رسمت – “أكانت عن سوء نيّة، أو عن حسن نية” – لخطف قرار المسيحيين وإرادتهم الحقيقية. منها، توافق محتمل بين الثلاثي جنبلاط وبرّي والحريري على رئيس لا يثير حفيظة بكركي، ولا يزعج “المسيحيين المعتدلين”، فيذهب الجميع إلى المجلس لانتخابه، وليعترض الأقطاب الموارنة عندئذ.
والبعض اعتبر أن ترشيح جنبلاط لهنري حلو قد لا يكون بريئاً عن هذا السيناريو. في حين ان جان عبيد مرشح بري الدائم، يحمل مواصفات الرئيس الذي قد يُرضي الثلاثي الشيعي والسنّي والدرزي، ويسكت “بعض” المسيحيين.
أمّا اليوم، فحدثان وتاريخان قلبا المشهد. 18 كانون الثاني 2016 يوم تبني “القوات اللبنانية” لترشيح الجنرال ميشال عون، الذي خلط الأوراق، و5 تشرين الأول 2016 يوم تبني المطارنة الموارنة لمواقف البطريرك الراعي الرافضة لما يسمى بـ”سلّة” التفاهمات الرئاسية، أي “سلّة” بري، وهو يوم أمعن في تغيير قواعد اللعبة التي بدأت خرائطها ترسم على جبهات معراب والرابية وبكركي.
ومع ان بكركي لا تقف مع هذا المرشح أو ذاك، إلا أنها استشعرت بالخطر الذي بدأ يحيط برئاسة الجمهورية، وسط تلبّد المعطيات الإقليمية وسوء العلاقة بين الرياض وطهران، وانعكاسها عرقلة في لبنان، وتنحي واشنطن عن التدخل في الأزمة اللبنانية، وعجز القطب الأوروبي عن التأثير في الملف اللبناني، والاشتباك بين الشرق والغرب، كلّها عوامل تقرأها بكركي بإمعان وبنظرة وطنية وبخوف على المسيحيين ودورهم الفاعل والحرّ في لبنان.
فبعد هذين التاريخين، أي 18 كانون الثاني، و5 تشرين الأول، لم تعد المختارة وحدها معبرا للحل الرئاسي، ولم يعد باستطاعة وليد جنبلاط أن يقول من كليمنصو “فليكن سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية”، وكأنه الآمر الناهي في تحديد الرئيس “المسيحي”. لم يعد بمقدور سعد الحريري كلما عاد من “سفر”، أن ينسّق خطواته مع جنبلاط بعد زيارة عين التينة، فيستغني عن مرشح 14 آذار لصالح مرشح يشكل احد “أعين” جندي الولي الفقيه في لبنان. ولا يستطيع سيّد عين التينة بعد اليوم، أن يتغنّى بغروره السياسي، فيتذاكى بطلب “إجماع مسيحي” من هنا، وتأييد من هناك، ويأخذ المسيحيين على غفلة، وكأنّ لا سيّد لهم ولا قرار.
ما حصل ويحصل اليوم في موضوع رئاسة الجمهورية، من وحدة بين غالبية المسيحيين، بدّل المشهد السياسي بأكمله، وأحدث تعديلا بالتوازنات السياسية، فلم يعد، لا لقاء ولا عشاء، بين “بيت الوسط” و”المختارة” ينتج تفاهمات على مائدة عين التينة، بمعزل عن معراب والرابية وبكركي.
فما حصل ويحصل مسيحياً، أسقط، ثلاثية بري – جنبلاط – الحريري التي كانت تعتقد انها وحدها من يقرر رئيس الدولة. وأسقط ما اعتادت أن تمارسه بعض المكونات السياسية في زمن الوصاية السورية، من استقواء وتفرّد وهيمنة، على قرار المسيحيين وكل اللبنانيين.
عندما قرر سمير جعجع ترشيح عون، أسرّ في مجالسه المغلقة لكلّ من التقوه أن العنوان الجوهري هو “استعادة القرار المسيحي”. وعندما أعلن نداء المطارنة الموارنة مباركته لموقف البطريرك الراعي أن من يقبل بسلة الشروط يكون بلا كرامة، كان استعادة للدور المسيحي. شكل كلاهما انتفاضة على محاولة مصادرة المركز المسيحي الأول في الدولة وبالتالي إخراج المسيحيين من المعادلة السياسية.
ترشيح الجنرال عون بغض النظر عن شخصه، وعن الظروف والمعطيات التي أدت إلى هذا الترشيح، تلاقى مع إرادة اكبر حزبين مسيحيين، ومع مباركة بكركي، فكسر العادة التي كانت سائدة منذ الوصاية السورية، ووضع حداً للهيمنة على القرار المسيحي، ووضع المكونات الأخرى بدءا بالثنائي الشيعي، مرورا بالتقدمي الاشتراكي وصولا إلى “المستقبل”، أمام معطيات جديدة ومفاجئة، أجبرتها على التنصل من وعود، ومن ترشيحات، والتفتيش عن طروحات جديدة تساعدها على إعادة الإمساك بالمبادرة.
هذا الواقع، اصطدم بـ”فورة غضب” مارونية، بطلتها بكركي، التي قررت أن تستعيد دورها الوطني في أكثر مرحلة حساسة من لبنان، بعدما فقدت هذا الدور مع رحيل البطريرك صفير، فأطلقت نداءها بالأمس، محررة أي رئيس مقبل من كل القيود والشروط والتفاهمات المسبقة التي تناقض بجوهرها الدستور، فأسقطت “السلّة”، لصالح رئيس حرّ، رئيس حَكم”، لا لصالح رئيس طرف، أو صوري”.
ومن جديد، كسر المسيحيون التقليد الذي كان سائداً أيضاً منذ عهد الوصاية السورية، وبات، بأقل تقدير، يمكن القول ان احدا لا يستطيع بعد اليوم ان يقول إنه يستطيع أن يقرّر عن المسيحيين.
فترشيح جعجع لعون أتى في إطار كسر اي محاولة للهيمنة على القرار المسيحي. ونداء بكركي اعاد البريق للدور المسيحي، مؤكدين أنّ اي تسوية على مستوى القرار الوطني، بدءا من قانون الانتخاب، وصولا إلى رئاسة الجمهورية، لا يمكن ان تمر إذا لم تحترم الميثاق التي حدّدته “المذكِّرة الوطنية” التي أصدرتها البطريركية في 9 شباط 2014، ولن تمرّ الا وفق الشروط المسيحية.