كتب المحرر السياسي في صحيفة “السفير”: مسكينة هي السياسة في لبنان. صارت يتيمة وبلا رجال سياسة إلى حد كبير. الأدلّة أكثر من أن تحصى وتعد، ولا بأس أن يترحم البعض، ومنهم وليد جنبلاط، على زمن “الوصاية السورية”.
لم يقم غازي كنعان بواجباته اللبنانية على أكمل وجه. كان ينبغي له، وقبل وضع مسدسه في رأسه، أن يُعدّ كتيباً يتضمن أصول انتخاب الرئيس في لبنان وتشكيل الحكومات وإجراء الانتخابات النيابية وتعيين المديرين العامين.. واتخاذ القرارات في الكثير من مزارع الجمهورية الثانية.
قام “حزب الله” بواجباته مع حليفه المسيحي الاستراتيجي ميشال عون. سدّد له فاتورة الوفاء بأجمل مما كان يتوقعها، وذلك بمجرد أن قرر سعد الحريري أن يضع اسمه على لائحة خياراته.. وصولاً الى تبنّيه نظرياً من دون أي سند سياسي معلن حتى الآن.
بالنسبة إلى “حزب الله” وأمينه العام السيد حسن نصرالله، ليست مسألة استبدال اسم بإسم. إنها معركة خيارات كبرى في المنطقة. بهذا المعنى، يشكل الإجماع أو شبه الإجماع على ترشيح “الجنرال” أفضل كسب استراتيجي لحزب مندفع، وبلا أدنى تردد، في معركة إقليمية ودولية ستترك بصماتها ليس على مستقبل لبنان وسوريا والمنطقة وإنما النظام العالمي الجديد.
هذه هي حصة “حزب الله” الاستراتيجية، لكن ماذا بعد؟
منذ الطائف حتى الآن، “انتخب” السادة نواب الأمة في لبنان، ثلاثة رؤساء للجمهورية، اثنان منهم، كان السوري هو الضامن لهما، ومن خلالهما الضامن لمجمل التوازنات الداخلية، والضابط لإيقاعها والمتحكم بمعظم مساراتها، طيلة عقد ونصف من الزمن. أما ميشال سليمان، فقد كان اتفاق الدوحة، بما شكّله بظروف انعقاده ومجرياته ونتائجه، هو الضامن الخارجي (قطري ـ فرنسي ـ تركي بالدرجة الأولى).
إذا كان ميشال عون أو سليمان فرنجية أو حتى سمير جعجع يريد أن يصبح رئيساً للجمهورية بالشروط والظروف والضمانات الخارجية نفسها، ينبغي أن ينتظروا طويلاً.. وطويلاً جداً.
عندما طلب سعد الحريري موعداً رسمياً من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تجاوبت دوائر الخارجية الروسية بسرعة معه، لأسباب متعددة، منها “تشعّبات” مستشاره للشؤون الروسية جورج شعبان، و “المكانة” التي يحتلها الحريري شخصياً بوصفه نجل رفيق الحريري، من دون إغفال “الوزن السعودي” ذلك أن زعيم “المستقبل”، كما والده وإخوته، يحمل الجنسية السعودية!
بدت المعادلة واضحة قبل وصول الحريري. إذا كان الرجل يريد رئيساً للجمهورية على الطريقة التقليدية التي أنتجت كل الرؤساء في لبنان بعد الطائف، فالجواب واضح قبل أن ينزل سلم طائرته الخاصة في مطار موسكو: المعطيات الخارجية تشي بأن لا رئيس للجمهورية في لبنان لا الآن ولا في المستقبل القريب أو البعيد. العكس صحيح، ففي ظل الاشتباك الإقليمي ـ الدولي في سوريا والمنطقة بأسرها، وبعد الانتقال من ضفة “التفاهم” في سوريا الى ضفة قرع طبول الحرب الإقليمية، لا إمكانية لأن تكون هناك إرادة خارجية تفرض على اللبنانيين رئيساً كما جرت العادة، منذ ربع قرن من الزمن، بل على اللبنانيين أن يحنوا رؤوسهم في انتظار انتهاء “لعبة الكبار” في المنطقة.
هذا الكلام لم يقله أحد من المسؤولين الروس للحريري، ولكنهم أسرّوا به في آذان بعض المقرّبين منه. هم يفهمون أن يبادر زعيم “المستقبل” الى الطلب منهم أن يضغطوا على دمشق وطهران ومن خلالهما على “حزب الله” وباقي حلفائه من أجل انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية. حصل ذلك قبل نحو سنة، وثمة محاضر رسمية في وزارة الخارجية الروسية تؤكد ذلك. وبالفعل، تجاوب الروس وقتذاك، وأوفدوا ميخائيل بوغدانوف الى العاصمتين السورية والايرانية، ولكن من دون جدوى.
قالها بوغدانوف بالحرف الواحد: نحن لا نفهم اسباب العراقيل التي تضعها بعض الاطراف اللبنانية المؤثرة لمنع تسهيل انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية، رافضا الذريعة التي يسوقها البعض بأن مبادرة الترشيح جاءت من السعودية وحلفائها في لبنان!
كان للمسعى الحريري ما يبرره آنذاك، لكن عندما أقدم زعيم “المستقبل” على تبني ترشيح ميشال عون (نظريا)، استنادا الى معادلة داخلية (شخصية الى حد كبير) لا تمت بصلة الى المعطيات الخارجية، هل كان لزاما عليه أن يطلب موعدا من القيادة الروسية؟
حتى الآن، لا يملك الروس تفسيرا لزيارة لم يكن يجب أن تحصل، فمن يريده الحريري رئيسا للجمهورية، يريده “حزب الله” منذ اللحظة الأولى للفراغ الرئاسي. في هذه الحالة، هل يجوز للحريري أن يستغل منبر الخارجية الروسية من أجل اطلاق الاتهامات ضد “حزب الله” جزافا؟
يدرك الروس أن دورهم الرئاسي في لبنان محدود في هذه اللحظة. هم يضعون سيناريوهات لاحتمالات حرب إقليمية، وبرغم ذلك، يكررون أنهم مستعدون للعب دور مساعد رئاسيا، لكن منطق الضمانات أصبح مختلفا. لم يعد ممكنا الهرب من “تفاهمات شاملة تشمل رئاسة الجمهورية والحكومة المقبلة وصلاحياتها وبقية البنود الخلافية”، على حد تعبير بوغدانوف، من قبل أن يطلق رئيس المجلس النيابي نبيه بري معادلة السلة السياسية المتكاملة.
لم تتبدل المعادلة الروسية. غداة عودة الحريري من موسكو، قالها السفير الروسي في بيروت ألكسندر زاسبكين لكل من راجعوه: “المطلوب ضمانات وتفاهمات متبادلة”.
لم يعد بمقدور “الجنرال” أن يتلطى وراء بكركي التي ربما كانت تقصد بموقفها “تسهيل” وصوله الى القصر الجمهوري، ولكنها فعليا لم تخدمه برفع سقفها الى هذا الحد.. غير المطلوب.
اليوم، وفي غياب الضامن الخارجي، سورياً كان، أم روسياً أم أميركياً أم قطرياً أم سعودياً أم إيرانياً، وطالما أن المبادر هو سعد الحريري، لا بديل من ضامن اسمه المرشح لرئاسة الجمهورية.
ومن عادة المرشح أن يسعى الى كسب أكبر عدد مكن من الأصوات من أجل ضمان فوزه. في رحلة الحج الرئاسية، عليه أن يعطي ضمانات لكل من يطالب بها، فكيف اذا كانت تتعلق بقانون الانتخابات وتوازنات السلطة وادارتها طيلة ست سنوات؟
للمرشح أن يمتلك حس المبادرة. أن يسعى إلى تسويق نفسه. أن يطمئن الخائف والقلق والمتهيب والرافض وحتى المتحمس له. لا يجوز أن يعطي انطباعا أنه يأتي بزخم سعد الحريري وسمير جعجع و “كفى الله المؤمنين شر القتال”. عندما يكون للزخم الرئاسي مصدر أساس مثل ولي العهد “المعرابي” وولي ولي العهد الحريري، يصبح من حق نبيه بري ووليد جنبلاط وطلال إرسلان ونجيب ميقاتي وسليمان فرنجية و “القومي” و “البعثي” وبطرس حرب أن يتحفظوا.
أقلّه، لا يقدّم “حزب الله” نفسه ضامناً لحلفائه، وهو ليس في وارد أن يتولى مهمة من هذا النوع.
هل يكون سعد الحريري هو الضامن؟
الجواب حتما لا. تكفي شبهة “الاتفاق الثنائي” بين “المرشحين” لإحداث نقزة سياسية هنا أو هناك، برغم النفي المتكرر.. وغير المقنع.
للمرشح الرئاسي وحده أن يكون الضامن قبل الانتخابات، خصوصا إذا كانت الثقة محصورة به وتكاد تكون شبه منعدمة بجزء لا يستهان به من محيطه.
بعد وصول المرشح إلى القصر الجمهوري، يمكنه أن يتبنى خطاب بكركي. لم يعد مسموحاً التفريط بما يملك الرئيس الماروني من صلاحيات. على العكس، المطلوب أن تؤدي كل الصياغات إلى تعزيز دوره والأهم ضمانته للجميع.
بكل الأحوال، لا يُصنع الرئيس بتمدد “مناخات كربلاء” سياسياً، الى الرابية، كما تبدت الصورة في الساعات الأخيرة. يُصنع الرئيس بدينامية سياسية وبامتلاك عنصر المبادرة، لا بالتشاطر أو الاشتراط ألّا ينزل إلى مجلس النواب إلا مرشح وحيد وضمانة سحب كل المرشحين مسبقاً، مخافة تهريبة رئاسية في اللحظة الأخيرة.
ما هكذا تُورد الإبل يا.. “جنرال”.
في الانتظار، لا بأس من ملء الفراغ بالمزيد من التسالي الرئاسية على طريقة سؤال وليد جنبلاط قبيل منتصف ليل أمس:
?Where is the money ..where is the President