طغت السياسة على مهرجان بيروت السينمائي الدولي الذي افتتح نشاطاته في الخامس من شهر أكتوبر الجاري بعرض فيلم “الفتاة في القطار” للمخرج بيت تايلور. حضرت السياسة في المهرجان ليس من خلال طغيان التوجه السياسي على الأفلام المقرر عرضها، ولكن من خلال المنع الذي طال ثلاثة من الأفلام التي كانت مدرجة على لائحة العروض المقررة في المهرجان.
توزع المنع على خريطة تمثل العناوين الحرجة في لبنان والتي لم يُصر إلى إيجاد صيغة واضحة للتعامل معها فقد منع فيلم إيراني للمخرج محسن مخملباف بحجة أنه يتضمن إساءة إلى الدولة الإيرانية، وراجت أخبار تفيد بأن الدولة الإيرانية أوعزت إلى حلفائها في لبنان بالتدخل لمنع هذا الفيلم. الفيلم الثاني الممنوع هو فيلم “شؤون شخصية” للمخرجة الفلسطينية مهى الحاج وجاء في خلفية أسباب المنع أن الفيلم هو من إنتاج إسرائيلي وأن عرضه يناقض مبدأ مقاطعة إسرائيل. الفيلم الثالث الممنوع هو فيلم سوري يحمل عنوان”كأس العالم” للأخوين ملص المعارضين للنظام السوري، وكان سبب المنع يتعلق بتضمن الفيلم نقدا قاسيا لبعض الأحزاب السياسية اللبنانية.
السحر الأسود
اكتملت دائرة السحر الأسود إذن إذا صح التعبير، وباتت الرقابة تنيط بنفسها عبر فكرة المنع مهمة طرد الشياطين.
ويبدو أن تعريف الشياطين في الساحة اللبنانية هو كلّ ما يمسّ بالوصاية الإيرانية المستجدة على البلاد التي تقيم وصاية النظام السوري في ظلالها، وكذلك وصاية الأجهزة والتيارات الممانعة واليسارية التي تنتج قراءة خاصة لفكرة مقاطعة إسرائيل، في حين أنها عمليا تقوم بالتضييق على الحضور الفلسطيني في كل المجالات، وتساهم في خلق حالة حصار ثقافي وإعلامي تطال الإبداع الفلسطيني. يلتقي هذا المنطق بعمق مع الجهود الإسرائيلية الحثيثة الهادفة إلى خنق الصوت الفلسطيني في كل المجالات، وخصوصا في مجال الفن الذي قد يكون المجال الأكثر فعالية وقدرة على التأثير في الرأي العام العالمي.
الرمزية الفظة
هكذا يؤسس المنع في رمزيته الفظة لصورة عن لبنان بوصفه بلدا قد وصل إلى درجة من الهشاشة، وفقدان المناعة الاجتماعية والسياسية الثقافية لدرجة أنه لا يستطيع احتمال نقاش يمكن أن يثيره فيلم.
ولعل العناوين الكبيرة التي طرحت على خلفية المنع، تعلن بوضوح أن ما كان يمكن أن يعدّ سابقا نوعا من الحساسية أمام طرح موضوعات معينة، قد نما وتحوّل إلى محرمات واضحة وصريحة، لا يستطيع المجتمع اللبناني التعامل معها دون أن يبدأ الجميع بقرع طبول الحرب الأهلية.
بلغ عدد الأفلام المشاركة في هذه الدورة من المهرجان 76 فيلما. تنقسم الأفلام المشاركة إلى عدة مجموعات هي الأفلام المشاركة في مسابقتي “الأفلام الشرق أوسطية” وتشمل 20 فيلما و”الأفلام الشرق أوسطية القصيرة” وتشمل 9 أفلام. غابت هذا العام مسابقة “الأفلام الشرق أوسطية الطويلة”.
ويقدم المهرجان من خارج المسابقات مجموعة أفلام تنتمي إلى “البانوراما الدولية” وتضم 25 فيلما إضافة إلى أفلام “جبهة الرفض” التي تضم 16 فيلما، كما يعرض فيلمان تدور مواضيعهما حول البيئة والغذاء. وتشارك وزارة السياحة في لبنان بستة أفلام قصيرة تتناول الحياة في لبنان قبل اندلاع الحرب الأهلية.
تتألف لجنة التحكيم في المهرجان من المخرج اللبناني كارلوس شاهين رئيساً، ومشاركة ندى دوماني مديرة الاتصال والإعلام في الهيئة الملكية الأردنية للأفلام إضافة إلى الصحافي والناقد اللبناني بيار أبي صعب.
الفيلم الفلسطيني
مديرة المهرجان كوليت نوفل تعرض لـ”العرب” مسألة المنع وتشرح ملابساتها قائلة “منع العديد من الأفلام، منها فيلم سوري حمل عنوان “كأس العالم” حيث طلب منا أن نقتطع أجزاء منه، ولكن لا نستطيع فعل ذلك لأننا لا نملك الفيلم، والمخرج لن يقبل أيضا، تاليا لن يتم عرضه. هذا الفيلم يتكلم عن الحالة السورية وهو بطبيعة الحال ضد النظام وقد اعتبر البعض أنه يتضمن إساءة لبعض الأحزاب اللبنانية. فيلم “شؤون شخصية” للمخرجة الفلسطينية المقيمة في فلسطين مهى الحاج منع لأن إنتاجه إسرائيلي، وتجدر الإشارة أنها ليست أول شخص فلسطيني ينتجون له، فعلوا ذلك سابقا مع إيليا سليمان وميشال خليفي. هذان يملكان جنسيات أخرى أما بالنسبة إلى مهى فهي لا تملك سوى الجنسية الفلسطينية. تدخّل لمنع الفيلم مكتب مقاطعة إسرائيل وعمل على إيقاف عرضه.
الفيلم الإيراني الذي منع هو لمحسن مخملباف، وهو صانع أفلام يعيش مع عائلته في إنكلترا، ونحن نعرض أفلامه منذ عام 1998، هذا الفيلم منع في إيران قديما، واقتطعوا منه حوالي 40 دقيقة وبقي القسم الحالي منه الذي يقع في حوالي 60 دقيقة. قام المخرج بتجديده وأعاد إطلاقه وأرسله لنا. اسم الفيلم “فتاة القطار” وقد تم التدخل لإيقاف عرضه”.
وتضيف كوليت قائلة “الأمن العام حوّل الموضوع إلى لجنة تابعة لرئاسة الوزراء تبتّ في هذه المواضيع عند عرض الأفلام في المهرجانات، اللجنة تألفت في العام 2010، ومن الممكن أن تعاود إعطاء رخص لعرض الفيلمين الإيراني والفلسطيني، ونأخذ الجواب النهائي يوم الاثنين. الرقابة كانت دائما بيد الأمن العام، وفي العام القادم نكمل 20 عاما في هذا المجال، وغالبا ما كان الأمن العام ليّنا، إلا في حال وجود تدخل سياسي”.
شرعنة المنع
تعلق نوفل على فكرة المنع التي لم يعد لها أيّ معنى معتبرة أن” فكرة المنع أصبحت ‘بلا طعمة’ في ظل وجود اليوتيوب والإنترنت، بالعكس هي يمكن أن تعطي حجما أكبر وشهرة للفيلم عند منعه. لو يترك الفن والثقافة للفنانين والسياسة للسياسيين لكنّا بألف خير، يحاولون أن يعيدونا إلى العصر الخشبي”.
المخرجة اللبنانية زينة صفير تعتبر أن “المنع مرفوض لأنه ينافي مبدأ حرية التعبير ونحن في لبنان نتمتع بها، لكن في رأيي أن المشكلة ليست في الرقابة بحد ذاتها بل في القانون، ونحن منذ فترة نعمل على تغيير هذا القانون. اليوم هناك أشخاص يطبقون ما هو مطلوب منهم، وتاليا نحن لا يمكننا أن نرفض هذا القرار فعليا لأنه يستند إلى بنية قانونية نافذة. ما يمكن فعله هو العمل على تغيير هذا القانون، ومنع الأفلام لم يحدث للمرة الأولى”.
وترى صفير أن “في بلاد مثل بلادنا، السينما لا تنفصل كثيرا عن السياسة. الأمر كذلك حتى في هوليوود. أي مخرج اليوم يعرض فيلما نادرا ما يناقش فنيا بل يناقش موضوع الفيلم، نحن دوما نرى النتائج ولا نحاول معالجة الأسباب”.
وصفير ترى أخيراً أن “من يمنع الأفلام ليسوا فنانين، من وضع القانون هو الإقطاع السياسي، وبالتالي لم يعد النقاش مبنيا على المستوى الفني للفيلم. الفساد والتراجع والإفلاس الذي نعاني منه والذي نتحمّل مسؤوليته جميعا تخطى موضوع منع الأفلام.
جميع الخطوات التي يتبعها العديد من الفنانين هي غير مجدية ونابعة من عدم معرفة بحقوقهم كفنانين وأيضا عدم المعرفة بالقانون الذي يسري على أعمالهم. وزير الثقافة الحالي ريمون عريجي محام وممكن أن نقوم معه بتعديل وإصلاح القانون الحالي لنا وللجيل القادم من بعدنا كي لا يقع في الأزمة نفسها”.
يجتمع المنع المشرعن بالقوانين مع نوع آخر من القوانين أنتجتها اللحظة الحالية والتي تقوم على منح كل المكونات السياسية والطائفية في لبنان حق الفيتو ضد ما تعتبر أنه يمس بها بشكل من الأشكال، كما يترك لها الحق في تقدير هذا الأمر. هكذا لم تعد شؤون الثقافة والسينما في يد السينمائيين والكتّاب والمفكرين، بل في أيدي أمراء الطوائف والطائفية وأبنائها، والمتحمسين للدفاع عنها بالدم، والروح، والمنع والحجب.
عكس السير
يعلم الجميع ومنهم الجهات التي تدخّلت لإنجاز المنع أن الأمر صار ممتنعا ولكنهم مع ذلك يصرّون عليه، ويبذلون الجهود في سبيل تحقيقه لأن المهم ليس إنجاز المنع في حد ذاته، ولكن في ما يؤسس له من خلال ذلك من سحب الشرعية عن بعض الأعمال التي تنتقد جهات معينة أو تفرض إعادة النظر في الكثير من المسلمات. هكذا يمكن لمن يريد مشاهدة الأفلام الممنوعة الاطّلاع عليها في مجال خاص، ويمكن أن تعرض في مجال عام بشكل محدود كذلك، ولكن الوصمة التي تلحقها بها فكرة المنع تكمن في حرمانها من إنجاز أهدافها، وبلورة نقاش عام يمكن بدوره أن ينتج فعالية سياسية.
المنع إذن يطال في عمقه السياسة التي تنتجها الثقافة، فأيّ مخرج ومهما علا شأنه لا يريد من الجمهور أن يشاهد فيلمه ويذهب دون أن يحمل معه شيئا من هذا الفيلم، يمكن أن يتجلى في العديد من مجالات العيش اليومي، إلى طريقة التفكير، وصولا إلى ممارسة السياسة.
والمنع يسعى إلى إقفال الباب أمام هذا النوع من الفعالية السياسية الثقافية، حيث تصبح الأعمال ومشاهدتها فعلا جامدا غير تفاعلي، يحدث وينتهي أثره في اللحظة التي ينتهي فيها عرضه. هكذا ستتحول عملية تلقّيه الخالية من التفاعل إلى عملية إعدام له، على العكس من حالة الولادة المتجددة والمستمرة التي يؤمّنها العرض العلني والعام.
لبنان الاستثنائي
على الرغم من أن المنع الذي جعلته لحظة التكنولوجيا الفائقة التي نحيا داخل زمنها مستحيلا فهو ما يزال ممكنا في لبنان، لأن استعمال التكنولوجيا في العالم ارتبط بمنظومة قيم لم تعد فكرة المنع قابلة للعيش في ظلالها، لأنها لا ترتبط بمطالب فئات سياسية أو اجتماعية محددة. بات رفضها من المسلمات ليس بسبب استحالتها التقنية ولكن بسبب استحالتها على مستوى القيم أساسا.
المنع ليس كذلك في بلاد الأرز حيث أن الاستحالة التقنية والقيمية التي تجعل المنع فاقدا للجدوى، يعوّض عنها بمنظومة قيم مضادة تجعله معبّرا عن قيم مجموعة كبيرة من مكوّنات المجتمع اللبناني وناطقا باسمها. يستطيع المنع إذن أن يكون خارج الإجماع على رفضه، ما يمنحه إمكانية الحضور الفاعل داخل السيكولوجيا الناظمة للسلوكات والتصرفات في لبنان.
يمكن رسم خريطة آلية عمل المنع في لبنان بشكل يمكن التأكيد فيه على أن هناك مجموعة تدين بالولاء للجهات التي وقفت وراء المنع ستمتنع عن مشاهدة الفيلم نهائيا بمجرد صدور الأمر عن هذه الجهة، هذه الفئة هي طوائف وجماعات. هناك فئة ستشاهد الأعمال عبر الوسائل التي تؤمنها التكنولوجيا من باب الفضول ولكنها لا تستطيع مناقشتها مع الفئة الرافضة لها، وهناك فئة ستسعى إلى مشاهدتها انطلاقا من عدائها للطرف المانع وجمهوره.
هكذا يستعد لبنان للتعامل مع مهرجان سينمائي بمنطق الاستعداد للحرب الأهلية التي تكمن مقدماتها الضرورية في استحالة النقاش، أي استحالة الاشتغال بالثقافة والسياسة، وهو تحديدا ما يحرص خطاب المنع على نشره وتعميمه.