IMLebanon

كيف سُرقت مليارات العسكريين؟

 

army-general-security

 

 

كتب رضوان مرتضى في صحيفة “الأخبار”:

أنشأ قائد وحدة الإدارة المركزية في قوى الأمن الداخلي العميد محمد قاسم شبكة احتيال وسرقة وتزوير مؤلفة من ضباط ورتباء وعناصر، كانت مهمتها التلاعب بالفواتير والمساعدات الاجتماعية بُغية اختلاس الأموال العمومية وتقاسمها في ما بينهم. هذا ما خلُص إليه قاضي التحقيق العسكري الأول رياض بو غيدا في قراره الظني في فضيحة فساد عشرات الضباط والعناصر وتواطؤهم لسرقة أموال مديرية قوى الأمن الداخلي. ولأن «المال السايب يعلّم الحرام»، أشار القرار الى ثغرات إدارية استغلها الضبّاط والرتباء الفاسدون.

وفي القرار المؤلف من ٣٩ صفحة، ادعى بو غيدا على ٤٧ ضابطاً ورتيباً، بينهم متقاعدون ومدنيون، بجرم إساءة استعمال السلطة واستغلال وظيفتهم لاختلاس أموال المديرية، وذلك عبر اختلاق فواتير شراء أدوية واستشفاء، والتوقيع على مساعدات مرضية مزوّرة.

وخلُص إلى أنّ هؤلاء اشتركوا مع آخرين بارتكاب الغش في نوعية المواد المسلّمة في التلزيمات المخصصة لإقامة الأبنية الرسمية أو تجهيزها. كما غشّوا في مواصفات المواد والقطع المستعملة في غيار آليات قوى الأمن الداخلي. كذلك ادعى عليهم بجرم قبول رشاوى لتمرير أفعالهم الجرمية ومخالفة التعليمات العسكرية.

وعن الثغرات الإدارية التي جرى استغلالها، لفت بو غيدا الى أن المكاتب الرئيسية في المديرية (المشتريات والمستودعات وتدقيق الفواتير) كان يشغلها، خلال فترة تولي قاسم مهامه، رتباء لا ضباط كما يفرض القانون. وأشار إلى أن دفع الفواتير للمؤسسات والمستشفيات ولأصحاب العلاقة كان يتم نقداً من مكتب التسليفات، في حين أن ذلك كان يجب أن يتم بواسطة حوالات. وتحدث عن ثغرة أساسية تمثّلت بوضع أموال المساعدات المرضية والاجتماعية، التي كانت تَرِد من مديرية قوى الأمن، في حساب شخصي للضابط المسؤول عن صرف تلك المساعدات، فكان الأخير يودع الأموال ويسحبها من دون تنظيم أي جردة، سواء بالأموال التي سلّمها أو التي دفعها، ثم يطلب غيرها بالمليارات من دون أي مستند يثبت صرفه المال المُسلّم إليه سابقاً. وكشفت التحقيقات أنه خلال عام ٢٠١٣ تمّ وضع «شيكات باريه» في المصارف بمبالغ كبيرة باسم رئيس مكتب التسليفات الذي كان يتقاضى الفوائد عنها خلافاً للقانون. كما تبين وجود جداول وهمية بتواقيع مزوّرة لمساعدات مرضية واجتماعية من دون علم أصحابها. وكشفت التحقيقات تلاعباً بعروض الأسعار لتصليح الآليات المقدمة من الكاراجات المتعاقدة مع قوى الأمن، وشراء قطع غيار للآليات بالفاتورة بدلاً من المناقصة العمومية المفروضة.

انطلقت التحقيقات من دور قاسم الذي كان يرأس وحدة الإدارة المركزية المتخصصة بمسؤوليات أعمال الإدارة والمحاسبة والمال، كما كان يُشرف على إدارة التجهيزات والأعتدة واللوازم والأبنية العائدة لقوى الأمن. ومن ضمن مهامه تأمين دفع الرواتب والتعويضات والمساعدات للعاملين في المديرية، والإمساك بقيود المحاسبة لصيانة التجهيزات والأعتدة، وتأمين حجز الاعتمادات اللازمة لنفقات قوى الأمن، وعقد نفقات شراء الأعتدة والتجهيزات ولوازم الأبنية. وبدأت القصة من إفادة المؤهل أول خالد نجم بأن قاسم كلّفه باستلام الإجراءات المتعلقة بسفر الضباط وصيانة وشراء قطع السيارات وفواتير الاستشفاء. وأقرّ نجم بأن قاسم كان يطلب منه، بشكل متكرر، تنظيم معاملات طبية وهمية بأسماء عناصر في قوى الأمن، وأنه كان يقبضها باسمهم ويشتري بالمبالغ المقبوضة مفروشات ومعدات منزلية لمنزل قاسم من أحد الغاليريات. كما استخدم بعض هذه المبالغ لصيانة منزله في الحازمية وشراء طعام وحاجيات من سوبر ماركت «غوديز» و«سي فود». وقد وضع العميد بتصرفه ثلاثة سائقين.

وكشفت التحقيقات أنّ الرتباء المتورطين كانوا يفاوضون عناصر قوى الأمن على اقتطاع قسم من المساعدات المرضية لمكتب العميد مقابل تسريع معاملاتهم. وقد انتزعوا موافقات إجبارية من هؤلاء العناصر، بعد ابتزازهم بمعاملاتهم العالقة، لتمرير فواتير وهمية بأسمائهم. ومن بين هؤلاء، أدلى المدعى عليه المعاون أول حسين ترمس بأن والده وزوجته يعانيان من وضع صحي صعب ويحتاجان إلى علاج دائم، مشيراً إلى أنّه طلب من رئيس قسم المساعدات المؤهل أول صالح تسريع دفع قيمة فواتيره، فوافق مشترطاً عليه «شوفة خاطر مكتب العميد قاسم». وعرض عليه تنظيم فواتير وهمية باسمه، وبعد قبضها، يُسلِّم المبلغ المقبوض الى مكتب العميد. وتبين أن صالح كان يقتسم المبالغ المالية مع قاسم والمقدم محمود القيسي.

وأفاد المعاون أول المدعى عليه شاهر دندشلي بأنّ ابنه مريض ويحتاج الى أدوية أعصاب، وأنه كان يقدم فواتير بالدواء تتأخّر حوالي سنة. ولدى المراجعةر، طلب منه صالح مراجعة المؤهل شربل نغيوي الذي وعده بدفع قيمة الفواتير فور تقديمها، مقابل أن يسدد نصفها لقاسم وصالح. وأضاف أنّ الأخيرين كانا ينظمان فواتير باسمه من دون علمه، تُحوَّل على حسابه في المصرف ثم يتقاسمها معهما. وأقرّ المدعى عليه عامر ناصر بأنه تواطأ مع صالح ونظّم فواتير وهمية باسم صديقه عباس صالح من دون علمه، وأنه كان يتقاسمها مع الأول، مقرّاً بأنه قبض مساعدات مرضية بأسماء أشخاص آخرين بالطريقة نفسها. وكان الرتباء المتورطون «يُنقّبون» لمعرفة مَن مِن بين الرتباء وضعه المالي صعب لاستغلاله وإدخاله ضمن «عصابتهم». وفي هذا السياق، ذكر المعاون أول طنوس ح. أن المؤهل نزيه صالح عَلِم بوضعه المالي السيئ بعدما رُزِق بثلاثة توائم إثر عملية أنبوب لزوجته، فعرض عليه تنظيم مساعدات وهمية باسمه مقابل التخلي عن نصف قيمتها «فوافقت على الأمر مكرهاً». وقد اعترف رتباء آخرون بأنهم اكتشفوا لاحقاً وجود عدد كبير من الفواتير بأسمائهم مذيّلة بغير تواقيعهم ونظّمها أطباء لا يعرفونهم أصلاً.

واعترف المؤهل أول مالك جابر بأن العميد قاسم كان يكلفه بالتواصل الشركات التي تتعامل مع قوى الأمن لـ «جلب إكراميات» مقابل تسريع بت معاملاتها، كاشفاً أنّه كان يأخذ من كل إكرامية مائتي ألف ليرة. وذكر المؤهل أول الياس غانم أنّ أصحاب الكاراجات المتعاقدة مع قوى الأمن الداخلي كانت تُقدم «إكراميات» في الأعياد للضباط المسؤولين في المرآب، كاشفاً أنه استلم إكرامية من أحد الكاراجات مقدارها ألف دولار للعقيد نزار بو نصر الدين. وأنه في مرة ثانياً جلب له ظرفاً يحوي مبلغاً من المال من كاراج آخر. غير أن بو نصرالدين، نفى ما نُسب إليه.

المؤهل أول بسام السمرا اعترف بأنه كان ينقل أموالاً إلى المؤهل علي بزيع من دون علمه أنها بدل عمولة عن بيع الزيوت، علماً أنّهم كانوا يبيعون المديرية ليتر الزيت بثمانية دولارات في حين أن سعره في السوق ٣ دولارات. أما المؤهل شربل نغيوي، فذكر أن قاسم أعطاه أمراً بتأمين خمسة أشخاص يُنظَّم باسمهم فواتير مساعدات مرضية وهمية، شرط أن يتم دفع نصف قيمتها له. واعترف نغيوي أنه كان يُصوّر الفواتير التي ترده ويمحو الاسم الحقيقي لصاحب الفاتورة، ثم يضع أسماء أصدقائه من عناصر قوى الأمن. وهؤلاء كانوا يقبضونها ويدفعون نصف قيمتها إلى صالح الذي كان يعطيها بدوره إلى قاسم. وعلى شاكلة سابقيه، أقرّ المدعى عليه الياس العلم أنّه كان يقبض مساعدات اجتماعية من فواتير وهمية منظمة باسمه. وذكر أن نجم كان يكلّفه بشراء كل حاجيات قاسم من ملبوسات ومأكل وأدوات مطبخ، كاشفاً أنّه كان يقبض في كل مرة ٢٥٠ ألف ليرة.

الدور الذي يعادل دور العميد قاسم، كان ما قام به المقدم محمود القيسي، الذي عَمِل لسنوات في شعبة الشؤون الإدارية والمسؤول عن دفع المساعدات المرضية والاجتماعية لمستحقيها. غير أنّ القيسي كان يدفع قيمة مئات الفواتير لنفسه، ولغير مستحقّيها. وقد ضُبطت في منزله مساعدات مرضية مصروفة ومكتوبة بخط اليد لأسماء مدرجة في الجداول تبين أنها وهمية ومزوّرة. وقُدّرت المبالغ المرصودة في الجداول التي عُثر عليها بحوالي عشرين مليار ليرة.

ولدى مواجهة القيسي، برّر احتفاظه بالجداول بحرصه عليها كي لا تضيع. واعترف المعاون أول بسام توتيّو، سائق القيسي، بأن الأخير كلّفه بمسؤولية الجداول لأسماء المستفيدين، كاشفاً أنه كان عندما يحضر أحدهم لقبض فواتيره، يدخل إلى غرفة القيسي لجلب المال ويُسلّمه للمستفيد. وذكر توتيّو أنه في الحالات التي لم يكن يحضر أصحاب العلاقة لقبض مستحقاتهم، كان القيسي يخفي الجداول ويحتفظ بالمبالغ لنفسه. ولدى سؤال القيسي عن تلك الأموال، ردّ بأنه كان يُسلّمها لصالح، المقرّب من العميد قاسم، ليُسلّمها بدوره إلى مستحقيها. ولدى سؤاله ما إذا كان عمل على التأكد من أنها تصل إلى أصحابها، أجاب: «كلا، وهذا هَبَلْ منّي». وعن مليارات الليرات التي كان يستلمها من المديرية، أجاب أنه كان يضعها في حساب شخصي باسمه في البنك العربي بموافقة المدير العام ووزارة المالية.

وفي ما يتعلق بالعقيد أحمد عساف، رئيس فرع الإدارة في الإدارة المركزية التي يرأسها قاسم، فقد ذكر رئيس القسم في دائرته المؤهل زكريا نجمة أنه نظّم مساعدات مرضية بفواتير غير صحيحة، تسديداً لسُلف مالية استحصل عليها عساف سابقاً. وباستيضاح الأخير، أجاب أن والديه كانا بحاجة إلى علاج شهري دائم، وانه استحصل على سلفة لشراء دواء لهما. وأضاف أنه بعد فترة راجع المؤهل صالح الذي أفاده بأنه «سدّد السلفة من أموال الفواتير الوهمية». أما المساعدات المرضية المسجلة باسمه، فرد بأنه لا يعلم عنها شيئاً. وذكر عساف أنّه أبلغ العميد أسعد طفيلي بأن باب المستودع الذي تُحفظ فيه ملفات المساعدات المرضية وُجِد مخلوعاً، إلا أنّ الأخير لم يُشِر بفتح تحقيق، إنما طلب «إصلاح الباب». والمفارقة أنّه اختفت من المستودع مساعدات وفواتير وهمية باسم عساف، بعد خلع باب المستودع.

أما العمداء المدعى عليهم نزيه فطايرجي وشالر الحايك وخالد الساروط، فقد تبين أنهم مدعى عليهم بهدر المال العام في ملف سجن رومية.

وقد تبين أن المدعى عليهم المؤهل نزيه صالح والمؤهل أول تنال زعيتر والمعاون أول سليمان شكر متوارون عن الأنظار. وقد صدرت بحقهم مذكرات توقيف غيابية. فيما لا يزال العميد قاسم والمقدم القيسي موقوفين، إضافة إلى خمسة رتباء. وأخلى القضاء العسكري سبيل عدد من الضباط والرتباء والمدنيين الذي يبلغ عددهم قرابة أربعين مدعى عليهم. وقد تقرر وفقاً وخلافاً لمطالعة النيابة العامة الادعاء على الضباط والرتباء المتورطين بموجب مواد بلغت عقوبة أقصاها السجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة المؤقتة.