Site icon IMLebanon

عون..”المدفعجي” الطامح للتتويج

 

 

كتب كلير شكر في صحيفة “السفير”:

مهما قيل عن ميشال عون، سلباً أم أيجاباً، وسواء عشقته الى حدّ «التقديس» أم كرهته الى حدّ «الشيطنة»، فلا نقاش في ثابتة موضوعية: الرجل ظاهرة في التاريخ السياسي اللبناني المعاصر.

يستذكر 13 تشرين الأول وكأنه انتصار. ينبشه من الذاكرة وكأنه إنجاز يفاخر به. لا يبالي بمن يعايره بـ«سقطة» أو يتهمه بالتخاذل أو بالانكسار. غريب أمره، أو ملفتة للانتباه قدرته على تقديم الأحداث واستثمارها. فيه من مؤثرات السحر على أناسه ما يجعله يحيل الأسود شديد البياض. وما يسري على هذه الذكرى قد يسري أيضاً على الكثير من محطات «رجل الحرب والسلم».

يقول أحد عارفيه: «هذا واحد من أسرار ديمومة ميشال عون وقواعد بقائه: «حين تكون في القمة، لا تحاول النزول أبداً اذا ما أجبرت على مغادرة المكان… اقفز الى قمة أخرى. كيف لا وهو الأشطر في التصويب ويملك مواصفات «المدفعجي» الناجح دقةً وتهديفاً».

يقف منذ عام 2005 على قمّة زعامة لم يعط مجدها لأي من بني جلده. وها هو يستعد للقفز الى آخر قممه: رئاسة الجمهورية، اذا ما جرت رياح التفاهم اللبناني وفق ما تشتهيه سفنه.

المحارب العتيق الذي خبر الجبهات العسكرية والسياسية وحفظ خرائطها وتعقيداتها عن ظهر قلب، لا يزال صامداً في متراسه. لم تتعبه السنون ولم تهزمه. يقود معاركه السياسية كما لو أنه ما يزال يرتدي بزته المرقطة. يتصرف الرجل الثمانينيّ وكأنه لا يزال عشرينياً، في مقتبل شبابه واندفاعته.

متخمة سيرة ميشال عون بمحطات عسكرية وسياسية. معارك قاسية حين كان لا يزال ضابطاً في المؤسسة التي تطوع في مدرستها في 1 تشرين الأول 1955… الى تبوئه القيادة في حزيران 1984 ليكون أصغر ضابط يتولى القيادة منذ الاستقلال، من ثمّ رئاسة حكومة انتقالية وقيادة حروب «التحرير» و «الإلغاء» و «13 تشرين»… الى أن ذاق طعم المنفى وقرر أن يقود تياراً شبابياً نضالياً لينعقد من بعدها نصاب الزعامة المسيحية بنسبة تفوق السبعين في المئة، وفق أول انتخابات شهدها لبنان بعد عودته من باريس في ربيع عام 2005.

في كتابه «موارنة من لبنان»، يصفه الزميل حازم صاغية بأنّ «له عينين صغيرتين فيهما شيء من حنان غامض غير مألوف في العسكري. عقله مرتب والكثير من أفكاره مصوغ على شكل معادلات». يضيف: «المخاطرة بالحياة، عدم الخوف، الاحتفاظ بقمصان مزقها الرصاص، الإصرار على عدم الاستقالة مهما بلغت العراقيل، قصص تروى عنه ويبالغ هو في توكيدها».

صحيح أنّه مع العمر لم يترك سلاحه جانباً، ولم يرفع رايات الاستسلام، لكنه صار أكثر ليونة واستيعاباً لمشيئة الأقدار والتفاهمات الكبرى، من دون أن يزيح عن ثوابت كبيرة يضعها لنفسه بمثابة خطوط حمراء يرفض تجاوزها… ولعل أهمها إيمانه بالدولة.

يقول صاغية إنّ عون «لم يعرف فؤاد شهاب كقائد للجيش ولكن ينسب اليه حماسته للشهابية بوصفها دولة مؤسسات وإنماء».

عاشق للعبة الأضواء والمنابر، وقد يكون من بين اللاعبين الأكثر قدرة على استخدام هذا السيف. معجم شعاراته لا ينضب أبداً، وقوة تأثيره في أناسه خاضعة دوماً لتجديد الخلايا والطاقة.

فلش كل خرائط الجغرافيا السياسية المتاحة التي تصل دروبها إلى مطحنة الرئاسة. فرفع الحواجز عن طريق الرابية ـ بيت الوسط، وطار إلى أرض السعودية تحت عنوان تقديم واجب العزاء برحيل الملك عبد الله، ثم قلب صفحة صراع الأخوة مع معراب الى غير رجعة… وكل ذلك في سبيل رئاسة قرر أن يخطفها بالسياسة، بعدما عجز عن أخذها بوسائل مختلفة.

وقد تكون العلاقة مع «القوات» هي من أدق المسائل التي تعامل معها الزعيم المسيحي الأول، خصوصاً اذا ما اتخذنا من كلام قاله كريم بقرادوني دليلاً قاطعاً، وفق ما جاء في كتاب صاغية: «إذا تصالح (الجنرال) مع «القوات» يكون قد تصالح مع ذاته لأنه كان في «القوات» قبل أن يصير جنرالاً».

وفي الرسم البياني لعلاقاته مع القوى المحلية أو الخارجية، يظهر المدّ والجزر، وبأنه لا يعرف الاعتدال: إما أبيض وإما أسود. ولكن طبعاً له القدرة دوماً على القفزة برشاقة من ضفّة إلى أخرى… ومعه أناسه.

يجمع ابن حارة حريك التي لطالما ركض بين بساتينها حافي القدمين، في ذاته خليطاً قلّ نظيره: زعامة خرقت التقليد الماروني، وهو الآتي من وسط اجتماعي متواضع، قيادة و«كاريزما» تساعداه على تخطي الصعاب بقلب حديديّ، وخبرة حياة عابقة بالمعارك الصعبة وأحياناً المستحيلة، ونهماً للقراءة والثقافة وهو سمة تعززت خلال تجربة المنفى الباريسي.

بعد أكثر من ربع قرن من خلعه البدلة العسكرية، لا يزال قلب ميشال عون، قلب مقاتل. ولو منحت له الرئاسة على طبق تسوية سهلة لكان من الممكن أن يرفضها! ومع ذلك تعلّقه بعائلته الصغيرة ليس تفصيلاً، وتأثير أفرادها على ما حوله، ليس قليلاً… ليعيد من حيث يدري أو لا يدري استنساخ تجربة الإقطاع السياسي في منزل بني على أساس محاربة الإقطاع والتوريث!

نظرياً، قام الرجل بما يلزم ليكون طريق بعبدا مفتوحاً أمامه. فعلياً، ثمة من يقول إنّ حواجز الممانعين لوصوله، محلياً وإقليمياً ودولياً، لا يستهان بها بل قد تغيّر المشهد رأساً على عقب… ويصحّ عندها الوصف الذي يختصر مسيرة ميشال عون: هو الأذكى والأدهى والتخطيط، ولكن عند التنفيذ تبقى شياطين التفاصيل أقوى.