كتب طارق ترشيشي في صحيفة “الجمهورية”:
تعوَّد اللبنانيون في كلّ استحقاق رئاسي، أن يحصل توافق على مرشّح معيّن مشفوعاً بما يسمّى «كلمة السر» التي يُهمَس بها من الخارج، فيُنتخَب رئيس الجمهورية من دون الدخول في تفاصيل ما بعد الانتخاب.غير أنّ ما يحصل الآن في شأن الاستحقاق الرئاسي يعاكس ما كان يحصل في استحقاقات سابقة، إتفاق بين رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون والرئيس سعد الحريري، يقضي بأن يتولّى الاوّل رئاسة الجمهورية مقابل تولّي الثاني رئاسة الحكومة، وهو اتّفاق ثنائي يتمّ بمعزل عن بقيّة القوى السياسية، وإنْ كان لديهما من يؤيّدهما في هذا الاتفاق الذي يحصل خارج الإطار الدستوري، ويطيح بطاولة الحوار وجدول أعمالها ويستبدل مبدأ «التفاهمات الوطنية» التي نادى بها رئيس مجلس النواب نبيه بري وآخرين، بتفاهمات ثنائية.
رئيس الجمهورية غالباً ما يُنتخب بعد توافق مسبَق عليه، وهو في الواقع توافُق غير دستوري لأنّه خلافاً للدستور يَمنع مرشّحين آخرين من خوض انتخابات الرئاسة بمنافسة ديموقراطية في جلسة الانتخاب ويفوز فيها من ينال اكثرية الاصوات النيابية، امّا إذا حصل توافق عليه فإنه يصبح كمن يفوز بالتزكية لأنّ الغالبية النيابية تكون قد أيّدته ولم ينافسه ايّ مرشّح آخر. علماً أنّه كان يحصل في انتخابات سابقة اندفاع نواب الى انتخاب أسماء غير معلن ترشيحها رسمياً يُراد منه إضفاء «صبغة» المنافسة الديموقراطية على الجلسة الانتخابية، أو يراد منها تغطية المخالفة الدستورية الفاضحة في انتخاب مرشّح وحيد للرئاسة بعد إعدام بقيّة المرشّحين فرصة المنافسة.
ولم يحصل أن سمّيَ رئيس الحكومة علناً ضمن طبخة التوافق على رئيس الجمهورية، ولكن هذه التسمية كانت تحصل من حيث المبدأ في بعض الحقبات من خلال توافقات أو إيحاءات تَصدر من قوى مؤثّرة داخلية أو خارجية، ولكن هذا الأمر كان يُترك للاستشارات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية بعد انتخابه وتسلّمِه مقاليد الرئاسة لتسمية الشخصية التي يكلّفها تأليفَ الحكومة الاولى في عهده، في ضوء نتيجة تلك الاستشارات التي هي أشبَه بانتخاب نيابي غير مباشر لهذه الشخصية.
لكن هذا الأمر لا يعني أنّ هناك اعتراضاً ما على ان يكون الحريري رئيس الحكومة المقبلة، ذلك أنّ خصومه يريدونه في هذا الموقع قبل مؤيّديه، لِما يرون فيه من صفات اعتدال، ولكنّ هؤلاء الخصوم وحتى بعض المؤيّدين يعترضون على ما جرى ويَجري من «تفاهمات ثنائية» بين معاونيه ومعاوني عون بمعزل عن بقية مكوّنات البلد، علماً أنّها تفاهمات لا يمكن ان تلزم أحداً لأنّ هؤلاء المعاونين ليسوا سلطة دستورية مِن صلاحياتها تحديد تركيبة الحكومة وبيانها الوزاري وإجراء التعيينات الإدارية والعسكرية والامنية في ظلّ العهد الرئاسي المقبل، في الوقت الذي لم يحسَم بعد مصير انتخابات الرئاسة ومَن سيفوز بالكرسي الأولى في الجمهورية، خصوصاً أنّ زعيم تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية لم يسحب ترشيحَه بعد، فضلاً عن وجود مرشّحين آخرين يمكن أن «يطحشوا» في ربعِ الساعة الاخير، فمن يدري؟ إذ إنّ خيار الرئيس التوافقي لم يُستبعد بعد، وهو خيار يمكن اللجوء إليه إذا سقطت الخيارات الأخرى.
على أنّ بعض السياسيين يخشون من إمكان تردّد الحريري أو تأخّرِه لفترة إضافية في الإقدام على ترشيح عون، في حال ظلّ الأفق الإقليمي والدولي مسدوداً، على رغم التوقّعات السائدة عن أنّه يمكن ان يعلن هذا الترشيح في أيّ وقت هذا الاسبوع، علماً أنّ هذا التردد قد يكون سببه عدمَ حصول التوافق الجامع المطلوب بعد على شخص الرئيس العتيد، فضلاً عن انّ أطراف سياسية كانت ولا تزال تشكّك في نجاح ما يجري، لغياب الرعاة الاقليميين والدوليين المعتادين عن هذا الاستحقاق هذه المرّة.
فالمعلومات التي ترشَح من واشنطن منذ ايام تفيد انّ الإدارة الاميركية هي في «كوما» الانتخابات وتؤكّد لسائليها أنّها غير معنية بكلّ ما يجري في شأن رئاسة الجمهورية، ولا يهمّها سوى الحفاظ على الاستقرار الامني والمالي في لبنان.
ويكشف مطلعون على ما يدور من مفاوضات بين التيارين البرتقالي والأزرق أنّ الحريري طلب من عون أن يؤمّن له «ضماناً خطّياً» من حلفائه المحلّيين والإقليميين، يسهّل تأليفَ الحكومة والاتفاق على تركيبتها وبيانها الوزاري وصولاً الى التعيينات الإدارية والامنية والعسكرية.
إذ إنّ الحريري يخشى في حال تكليفه من ان لا يتمكّن من تأليف الحكومة في مدى قصير، فيصبح في هذه الحال رئيساً مكلّفاً وإلى جانبه رئيس حكومة تصريف أعمال، فيما البلاد تقف على مسافة أشهر من الانتخابات النيابية في الربيع المقبل. ويقول هؤلاء المطلعون إنّ عون لم يفاتح حلفاءَه بعد في أمر هذا الضمان، لاقتناعِه بأنه قد لا يستطيع الحصول عليه بسهولة.
وإلى ذلك، ثمّة عدم ثقة لدى البعض في إمكان نجاح الحريري في ما يطرحه، خصوصاً أنّ البعض يخشون من ان يؤدي في حال فشلِه إلى تفكّك الصفوف، وقد بدأت مؤشّرات هذاا لتفكك تظهر في صفوف حليفَي عون والحريري على حدّ سواء، بدليل عدم توافق كتلة «المستقبل» بعد على رأي واحد في شأن ترشيح عون، فضلاً عن اعتراض بعض حلفاء المستقبل على عون، وفي المقابل تسود مواقف متشابهة في صفوف الفريق الآخر، ويتصدّرها مواقف كتلتَي رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط.