كتبت كلير شكر في صحيفة “السفير”:
و فعلاً كما قال في لحظة ولادته السياسية: أنا سعد الدين الحريري، ولست بالتأكيد رفيق الحريري.
الابن الثاني لمؤسس «امبراطورية مال وسلطة وإعلام»، وأحد أكبر أثرياء العالم، الذي خرج بين ليلة وضحاها من الظل الآمن والانتظار الطويل في الصحراء، الى رهبة الضوء والضوضاء… يقدم اليوم طلب انتسابه الى «نادي اللاعبين الأساسيين»، كمبادر و «فدائي» و«مخاطر» «صورة طبق الأصل عن الوالد الشهيد».
أحد عشر عاماً احتاجها الشاب الآتي بغفلة، من عالم الأعمال و«البيزنس»، الى حلبة صراع سياسي لا يرحم، كي يكوّن شخصيته السياسية ويبرهن على أنه لم يعد مجرد وريث تحول بقوة زلزال الدم الى زعامة طائفة بأكملها، وقادر على اتخاذ القرار وعدم الاكتفاء بالانتظار، والمجازفة والإتيان بالآخرين الى ملعبه!
ها هو يثبت بخطوته «الانتحارية» كما سبق وسماها مع ترشيحه العماد ميشال عون، أنّ فيه من روح المغامرة، والتمرّد على القواعد التقليدية في اللعبة السياسية، ما قد يصل به الى حدود تغليف الاعتبارات الشخصية بمضمون سياسي كبير، على الطريقة اللبنانية!
يمكن للحريري أن يقوم بالشيء ونقيضه من دون أن يرفّ له جفن، بعدما وصل في سلّم تنازلاته الى حدّ التسليم بأغلى الخيارات الرئاسية ثمناً، مقابل العودة الى السرايا الحكومية.
يخوض الحريري راهنًا أصعب اختباراته وأدقها: فإما يثبت أنه بات «أستاذاً»، بإمكانه أخذ زمام المبادرة لكسر القواعد القائمة، فينقذ نفسه من إفلاس سياسي بات حتمياً… وإما تصدق نبوءته ويكون قد أطلق النار بنفسه على قدميه.
فعلياً، ليست المرة التي يتصرف فيها الرجل باندفاع غير مدروس وغير محسوب وغير مفهوم بالنسبة للمحيطين به. في المرة الأولى، فعلها حين قصد دمشق في 20 أيلول من العام 2009 ليقضي يومين في جناح بشار الأسد الرئاسي الشخصي. ثلاثة لقاءات منفردة مع الرئيس السوري وذلك على مسافة أربع سنوات من الخصومة القاسية التي لم يوفر فيها النظام السوري بكل رموزه السياسية والأمنية من تهمة اغتيال والده، حتى أنه وصف الأسد في آب 2006 بأنه «ناكر لجميل العرب ومحرّض على الفتنة»، وأنّ «قصر المهاجرين صار قصر المتاجرين»، ردا على عبارة الأسد الشهيرة التي وصف فيها قادة الخليج بأنهم «أنصاف الرجال».
طبعاً، لم تحصل تلك القفزة الكبيرة إلا بظلال التفاهم السعودي السوري المعروف بالـ «سين سين»، وما سبقه من محطات أبرزها اتفاق الدوحة، وصولا الى دخول الحريري نادي رؤساء الحكومات في تشرين الثاني 2009 مع نجاحه بتأليف أولى حكوماته.
أما قفزته الثانية، فكانت من أمام المحكمة الدولية في كانون الثاني 2014 ليعلن أنه يطلب «العدالة لا الثأر والقصاص ولا الانتقام»، وليحسم بعد أقل من 24 ساعة موقف «تيار المستقبل» من المشاركة في حكومة جامعة، معلناً استعداده للمشاركة في حكومة تضم «حزب الله»… ليعود ويجلس الى طاولة حوار ثنائي مع الحزب برعاية رئيس المجلس النيابي، بينما يشهد الإقليم حروبا طاحنة من اليمن الى ليبيا مرورا بالعراق وسوريا.
أما الثالثة، فكانت في الانتقال برشاقة من ضفة الى ضفة رئاسية مقابلة، وما بينهما الجلوس طويلا على ضفاف رئاسة ضائعة. استهل مشواره الماراتوني من معراب ليختبئ خلف ترشيح «حكيمها» لنسف معادلة الموارنة الأقوياء، والانتقال الى مربع الرئيس التوافقي، ولما فشل في تحقيق مبتغاه، قرر الذهاب الى أقصى السيناريوهات الممكنة: سليمان فرنجية علّ ترئيسه ينشف تفاهم معراب، واذ يتبيّن له أنّ العقدة ليست في الرابية وحسب بل في قرار معراب تبني ترشيح «الجنرال» للقضاء نهائيا على خيار زعيم «المردة».
بكل أعصاب باردة، استدار الحريري مجدداً نحو الرابية ليخرج الرئاسة من عنق صراع إقليمي آخذ في الاشتداد… مع أنّ كل ما حوله، ومن حوله، يشي بأنّه يواجه مخاطرة غير مضمونة النتائج.
بعد أحد عشر عاماً من التمرّس في حقول ألغام السياسة اللبنانية، تكبّد خلالها أثماناً باهظة من كيس زعامته، قرر سعد الحريري أن يكون «براغماتيا» الى حد التحرر من كل القوالب التقليدية للعمل السياسي، متخففاً من جداول الحسابات الضيقة التي تدور في أذهان المحيطين به. هناك من يراه مبتدئاً في العمل السياسي، أو حتى مراهقاً لم يتكبّد كثيراً لبناء زعامته وبإمكانه أن يفرّط بها بسهولة. فيتسلى بالسياسة كهاو يقود دراجة نارية.
وهناك من يقول إنه الرجل ملاحق بالحظ العاطل: تزعّم على الدم وحاصرته الاغتيالات، راهن على كنز «سعودي اوجيه» واذ بها تتحول الى «مغارة الأربعين حرامياً». ديوان ملكي سعودي في تغيّر مستمر ومنطقة تغلي صخباً. مسيرة تنطلق من القمة لتجرّ من بعدها مسلسل الأثمان.
بعد أحد عشر عاماً، تحوّل نجل الشهيد الى «طالب قرب» من خصومه. يحمل زعامته على كفّه، ويسدد كرته الأخيرة، على أمل أن تكون «ضربة معلم»، لا «الضربة القاضية».