كتبت مي الصايغ في صحيفة “الجمهورية”:
كَياسة وديبلوماسية هادئة، يُقارب السفير الصيني في لبنان وانغ كيجيان العلاقات الثنائية بين بكين وبيروت والفراغ الرئاسي في لبنان، حيث تسلّم مهامَّه منذ شهرين، وانخراطَ بلاده أكثر في عواصف منطقة الشرق الأوسط، وعدم بقائها على الهامش، ورغبتها في إعادة إعمار سوريا وتحقيق الاستقرار بهدف تعبيد السُبل لبناء حزام اقتصادي لطريق الحرير، وليس سعياً إلى الهيمنة وحجز موقع لها على خريطة نفوذ القوى الجديدة.يُحاول السفير الصيني الجديد منذ وصوله إلى لبنان أن يفهم حقيقة ما يجري في بلد الأرز، حيث «يتفاءل» البعض بأنّ الاستحقاق الرئاسي بات بحكم المنجَز، فيما يتخوّف قسم آخر من أنّ «الطريق إلى حلّ الفراغ الرئاسي لا يزال طويلاً».
ويقول كيجيان في مقابلة خاصة مع «الجمهورية» في مقرّ السفارة في بيروت: «الإنتخابات الرئاسية شأن داخلي، نحن نحترم أيّ خيار يتّفق عليه اللبنانيون، وندعم الحوار والتشاور بين الأطراف السياسية للخروج بنتيجة في أسرع وقت. فليس لدينا مرشّح نُفضلّه على الآخر. قبل يومين زرت النائب ميشال عون، وهو صديق للصين، ونحن لدينا علاقات طيبة مع كل القيادات اللبنانية».
ويدعو السفير الصيني الأطراف الخارجية الى احترام سيادة واستقلال لبنان، الذي يحتفل في 9 تشرين الثاني المقبل بالذكرى الـ 45 لإقامة العلاقات الديبلوماسية مع الصين، مُبدياً استعداد بلاده للعب دور مساعد في أيّ تسوية.
التعاون الثنائي
ذكرى، ينطلق منها كيجيان، ليُدلّلَ على عمق العلاقات الثنائية بين بيروت وبكين، في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية كافة. ففي عام 2015، توصّلت قيادتا البلدين الى رؤية مشتركة واسعة في شأن تعزيز التعاون بين البلدين، على أن يزور لبنان وفد الصداقة الصيني في تشرين الثاني المقبل.
عسكرياً، تلتزم الصين بدعم الجيش اللبناني. فخلال الفترة ما بين عامي 2013 و2015 قدّمت الصين للجيش معدّات لوجستية وميدانية قيمتها 45 مليون يوان صيني، وهي ستقدّم مساعدات عينية ومعدّات له بنحو 30 مليون يوان صيني في العام الجاري، فضلاً عن مشاركتها في عمليات حفظِ السلام لـ»اليونيفيل»، حيث يؤدّي 410 ضبّاط وجنود صينيين مهامّهم ضمن هذه القوّة منذ عام 2006.
ثقافياً، عرَضت فرقة كركلّا اللبنانية مسرحية «ألف ليلة وليلة» في بكين أثناء عيد الربيع الصيني للعام الجاري، فيما عرضت مسرحية «طريق الحرير» لمجموعة من الفنانين من مختلف الدول بما فيها الصين خلال مهرجان بعلبك الدولي تموز الماضي.
وقد أُضيفت مادة اللغة الصينية إلى مواد الجامعة الاميركية في بيروت والجامعة اللبنانية الأميركية والجامعة الأميركية للتكنولوجيا، وفتحت الجامعة اللبنانية اختصاص اللغة الصينية رسمياً.
وفي الشقّ الإنساني، لم تغفل الصين مساعدة النازحين السوريين بشكل مباشر، إذ قدّمت للبنان 45 مليون يوان صيني من المساعدات العينية من دون مقابل، ومنحة قدرُها مليونا دولار.
استراتيجية «الحزام والطريق»
وبحكمِ المزايا الخاصة التي يتمتّع لبنان بها في قطاعات التجارة والمصارف والإعلام بالإضافة الى دور الجاليات اللبنانية في الخارج، وموقعه في منطقة التلاقي لـ»الحزام والطريق»، سيشكّل جزءاً أساسياً من الاستراتيجية التي طرَحها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013، وهي عبارة عن مبادرتين للبناء المشترك، الأولى «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير»، والثانية «طريق الحرير البحري للقرن الـ 21» (يشار إليهما اختصاراً بمبادرة «الحزام والطريق»)، واللتين تشملان مشروعات تنموية جنباً إلى جنب مع التجارة، وسيبقى لبنان كما كان شريكاً للتعاون على طريق الحرير وسيلعب دوراً مهمّاً في بناء «الحزام والطريق».
ولكن يبقى هناك عقبتان أمام استراتيجية «الحزام والطريق»، وهما تفشّي الإرهاب في الشرق الأوسط وعدم الاستقرار في المنطقة، ما سيؤثّر سلباً على مشاريع الحزام الاقتصادي، وفق ما يؤكّد السفير الصيني.
ويقول: «الإرهاب آفة دولية وورَم خبيث، والصين متضرّرة من الإرهاب، ونخشى عودة المقاتلين الصينيين الأويغور في سوريا الذين يقاتلون مع «جبهة النصرة»، وتنظيم «داعش». فعودتهم ستُهدّد إقامة حزام اقتصادي لطرق الحرير من الصين الى أوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط، لهذا السبب ندعم روسيا في عملياتها ضد الإرهابيين».
ويَعتبر السفير الصيني أنّه من الخطأ التعامل بازدواجية مع التنظيمات الإرهابية. ويقول: «لا يمكن قتال «داعش»، واعتبارُها أمراً سيئاً في الموصل وغضّ الطرف عنها في الرقة، وروسيا تكافح الإرهاب في سوريا».
ويَرفض السفير الصيني الذي يُتقن اللغة العربية بعدما حصَل على منحةٍ لدراستها في الأردن بين عامي 1985 و1989، أن يكون انخراط بلاده في الشرق الأوسط بشكل أكبر سعياً إلى الهيمنة وحجز مناطق نفوذ لها على خريطة المنطقة الجديدة.
ويذكّر كيجيان بأنّ الصين لم تكن في الماضي على الحياد في الشرق الأوسط. ويقول: «كنّا ندافع عن الحق والمبادئ، وفي طليعتها الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ودعم إنشاء دولة مستقلة لهم، وكنّا نشارك في دفع عملية السلام بين إسرائيل والدول العربية، وبحكم كونِنا دولةً عضواً في مجلس الأمن، نلعب دوراً فاعلاً في الامم المتحدة وفي الاتصالات الثنائية والإقليمية».
أمّا نشاط الصين السياسي المتصاعد وتعيينُها مبعوثاً خاصّاً لها إلى الشرق الاوسط، ومبعوثاً للملف السوري وآخر للملف الإفريقي، فيعبّر عن اهتمام الصين بشكل أكبر في الشؤون الشرق أوسطية.
ويقول كيجيان: «كانت القضية الفلسطينية جوهرَ مشكلة الشرق الأوسط، وفي الوقت الراهن ظهرَت ملفات وبؤر كثيرة تؤثّر على استقرار الشرق الأوسط وأمنِه، وانطلاقاً من كون الصين عضواً في مجلس الأمن، وعليها مسؤولية حفظ السلام والاستقرار في العالم، عيّنَت مبعوثين لهذه الملفات، ونحاول من خلال هذه الآليات أن نقوم بدور أكثر فعالية، والمساهمة في دعم الحوار بين الاطراف المعنية وإيجاد الحلول السياسية».
«نتصرّف بمسؤولية في مجلس الأمن»
وفي الملف السوري على وجه التحديد، مارسَت الصين «مسؤوليتها لجهة صيانة مبادئ وقواعد ميثاق الأمم المتحدة، وأبرزُها عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول»، حسبما يؤكّد كيجيان. ويقول: «لردع محاولات التدخّل، استخدَمت الصين الفيتو أربع مرّات في مجلس الامن، وهذه سابقة في تاريخ نشاطها في الأمم المتحدة.
كان الفيتو تأييداً لدولة روسيا الصديقة للحدّ من محاولات التدخّل لأطراف أخرى. نحاول دعمَ الحوار السوري – السوري، ودعمَ المفاوضات السياسية بين الاطراف المعنية من الحكومة والمعارضة للوصول الى حلّ سياسي».
أمّا أسباب عدم استخدام الصين «الفيتو» للمرّة الخامسة في جلسة مجلس الامن بشأن حلب فله مسوّغات. ويذكّر السفير الصيني أنّه كان أمام مجلس الامن مشروعا قرار؛ فرنسي وآخَر روسي. ويقول: «خلال التصويت على مشروع القرار الفرنسي لم نستخدم حقّ النقض الفيتو، لأننا متّفقون مع نقاط في مضمون القرار لجهة وقفِ العنف في حلب وضرورة إيصال المساعدات الانسانية.
لا يمكن رفض مشروع القرار الفرنسي، لكنّ عيبَه الوحيد أنّه كان ينقصه أن يتضمّن مبدأ احترام سيادة ووحدة أراضي سوريا. لهذا السبب امتنعنا عن التصويت».
في المقابل، تضمّنَ مشروع القرار الروسي «جوانب وقفِ العنف والمفاوضات السياسية وإيصال المساعدات الإنسانية ومكافحة الإرهاب، لذا صوَّتنا لمصلحته لأنّ الصين متفقة مع روسيا في هذه الجوانب»، يوضح السفير الصيني.
ويؤكّد كيجيان أنّ الهدف من تواصلِ الصين مع الحكومة السورية والمعارضة السياسية بصرفِ النظر إذا كانت من الداخل أو الخارج، هو التفاوض وإيجاد حلول، سواء وفقَ اتّفاق جنيف أو فيينا، وأن يكون هناك عملية سياسية بقيادة سوريّة، وأن لا يكون هناك حلول جاهزة مفروضة على السوريين من الخارج.
ويقول: «نحن في اتصالات دائمة مع المعارضة السياسية السورية، ولكن ليس لدينا علاقة مع المعارضين المسلحين. متمسّكون بسيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها، والفيتو الصيني هو من أجل منعِ أيّ تدخّلات أو تقسيم سوريا».
ويَنفي وجود معلومات لبلاده عن مصير عبد العزيز الخيّر ورجاء الناصر، القياديَين في هيئة التنسيق السورية المعارضة، اللذين اختفَيا بعد عودتهما من الصين. ويقول: «لقد اختفَيا في المطار، وقد تواصَلنا مع الحكومة السورية التي نفَت وجود أيّ معلومة لديها بخصوصهما».
أمّا الحديث عن إمكان نشر الصين في قوات حفظ سلام تحت راية الأمم المتحدة في سوريا مستقبلاً، فلم يُطرح حتى الآن، حسبما يؤكّد كيجيان، مشيراً إلى ضرورة توافر 3 شروط مسبَقة، وهي موافقة الدولة السورية وعدم استخدام القوة العسكرية إلّا في حالة الدفاع عن النفس ومبدأ الحيادية، في حال دعا قرار لمجلس الأمن إلى أمر مماثل. ويذكّر بأنّه عام 2012 كان هناك اتّفاق على إيفاد مراقبين دوليين لوقف القتال في سوريا، وقد شاركت الصين في ذلك.
إعادة إعمار سوريا
ولا ينكر كيجيان طموحَ بلاده في إعادة إعمار سوريا، التي تعرّضَت إلى «تدمير مؤلم». ويقول: «نأمل في حلّ سياسي في أقرب وقت لتنطلق بعدها عملية إعادة الإعمار حتى يستعيد الشعب السوري حياته الطبيعية وبلده الجميل. سوريا تحتاج الى مساعدة المجتمع الدولي، ونحن مستعدّون للمساعدة في إعادة إعمار سوريا».
ويَختم السفير الصيني قائلاً: «لا نطمح إلى ملء الفراغ، نَعتبر الشرق الأوسط منطقةً مهمّة من الناحية الجيوسياسية، وفي مجال الطاقة وفي المعادلة الصينية لبناء حزام اقتصادي لطريق الحرير، وعلاقاتنا جيّدة مع سائر دول الشرق الأوسط، وما نسعى إليه أن تنعم هذه المنطقة بالاستقرار والأمن. وهذا في مصلحتنا».