كتبت غراسيا بيطار الرستم في صحيفة “السفير”:
من اللحظة الأولى التي دخل فيها ميشال عون منزله في الرابية، أدرك أنها «محطة مؤقتة». طال انتظاره أحد عشر عاماً ولكن الجرس دقّ في النهاية للعودة إلى البيت الأساس: بيت الشعب.
علاقته مع الحجر ليست مهمة بقدر علاقته مع الأرض نفسها. فأي منزل يعني بالنسبة إليه أولاً الأرض. «إنها العلاقة الأكثر صدقاً في العالم. تعطي الأرض فتعطيك»، كما يردد عون دائماً أمام من يشاركونه يومياته.
تبدو الرابية عشية الرئاسة كالأم التي تجهز عروسها للانتقال الى قفصها الذهبي. دمعة وضحكة. من يعمل معه منذ سنوات بالكاد يراه في هذه الساعات. لقاءات بالجملة واستحقاقات ما قبل «عهد بعبدا».
زرع «الجنرال» في حديقة الرابية الكوسا والخيار والبرتقال والخرما والإجاص والأكي دنيا… «ربما لن يلحق موسم «الأبو صرة» من الليمون»، تقول رولا نصار التي كانت من بين من رافقوه من فرنسا إلى لبنان. في جعبتها الكثير من القصص والحكايات التي تختصر عون كإنسان.. كأب. «إنه الوجه الذي تعرفه قلة عن الجنرال الذي يتصرف مع كل شباب وشابّات «التيار» وكل من حوله بروح الأبوة».
تروي رولا أنّه خلال سنوات النفي كانت تراسله وتتحدث إليه عبر الهاتف لتطلعه على التحركات وتوزيع المناشير «ولكنه لم يكن يعرفني شخصياً». تقول «كان يعرف الشخص من مجرد قوله «ألو». يعاملنا بعاطفة الأب قبل القائد. وعندما شعر في إحدى المرات بإحباط ما في إحدى الرسائل لم يتردد في الاتصال بي للاستفسار عن وضعي».
تذكر تلك الليلة التي لم تنم فيها «عندما جاءنا جارنا في منتصف الليل ليعلمني أنّ لدي اتصالاً من فرنسا. إنه العماد عون. ذهلت أولاً من أين حصل على الرقم من ثم كيف شعر بأننا بحاجة حينها إلى جرعة معنويات منه. حتى إن عاطفة الأبوة كانت تتغلب عليه أحياناً ويطلب منا رمي المناشير في القمامة كي لا يصاب أحدنا بأذى ويسأل كل واحد منا عن امتحاناته ودروسه وأهله».
صاحب «اليد الخضراء»، في «الهوت مازون» كما في الرابية، بقي كما عهده «أبناؤه». بل اكتشفوا فيه المزيد. «إنه شخص لا يعرف اليأس. يبقى متفائلاً في أصعب الظروف ومعنوياته مرتفعة». سألته رولا الشابة ذات مرة: «ألا تتعب يا جنرال؟». فأجابها: «يبدو أنك «ختيرتي». لا يجب أن تتعبي إلا عندما تودعين هذه الحياة».
على هذه القاعدة «العسكرية»، سار معه توفيق. ظله منذ بدايات حياة العسكر وسكرتيره الخاص في الرابية. كثيراً ما تسبب توفيق بزعل كثيرين ممن أغلق الباب أمامهم لرؤية «الجنرال» وآخرين قطع مقابلاتهم في «عزها». ولكن ما يشفع له «وفاؤه الصافي» للجنرال منذ أيام وزارة الدفاع.
ألم الرحيل لا يشعر به «الجنرال» بقدر ما يشعر به كل من كان يحج الى الرابية سواء من العاملين فيه أو من النواب البرتقاليين والوزراء والعونيين ورواد السبت.
أحد النواب مازحه أمس قائلاً: «أنا معتاد أن أتغدى عندك 3 مرات في الأسبوع فماذا سأفعل غداً مع بروتوكولات بعبدا؟». ضحك «الجنرال» ولم يعلق.
في الساعات الأخيرة تختلط في الرابية مشاعر الحزن والفرح. تعبر نورما عن هذا التناقض قائلة: «مبسوطة لأنه سيصبح أخيراً رئيساً ولكنني زعلانة لأنني لن أراه كل يوم».
نورما تعمل في الرابية منذ عام 2005. تعلمت من «الجنرال» مبادئ كثيرة. «يجيبني على سؤالي ويطلب مني في الوقت نفسه أن أتأكد من الأمر في القاموس. فهكذا تترسخ المعلومة أكثر». أما القاعدة الذهبية التي تأخذها «زوادة حياة»، فهي «قول الحقيقة لو شو ما صار».
في الساعات الأخيرة، يودع «الجنرال» الزوايا التي تعني له. الصالون الذي جلس فيه الموسيقار الراحل ملحم بركات. الطاولة التي شهدت أول اجتماعات «تكتل التغيير والإصلاح» وآخرها. حديقته. شرفة المنزل التي كان يستقبل فيها من يكنّ لهم عاطفة معينة. الزاوية حيث كان يقرأ الإنجيل المقدس. الجيران.
يتلمس عون اللحظات الأخيرة. أما في ذهنه فيتخيّل عارفوه أنها مسكونة بفكرة وحيدة: «إنني أتبوأ أرفع موقع في سدة المسؤولية وكل آمال الناس معقودة عليّ. فهل يمكن لهؤلاء أن يمنحوني فترة سماح أم أنهم ينتظرون سحر التغيير بين ليلة وضحاها وكأننا في زمن العجائب؟».