كتب عبدالله بارودي في صحيفة “الجمهورية”:
ساعات قليلة تفصلنا عن تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل أولى حكومات العهد الجديد، لتبدأ معها رحلة الألف ميل في تكريس الشراكة الوطنية الإسلامية – المسيحية في الحكم.حين فعلها الحريري وأعلن تبنّيه ترشيح العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، أملاً في إنهاء الشغور الرئاسي الذي دام أكثر من سنتين ونصف السنة، كان يعلم تماماً أنّ قراره قد لا يلقى تجاوباً وتشجيعاً من كوادره الحزبية أو قاعدته الشعبية.
لكنه مع ذلك، أصرّ على اتخاذ هذا الخيار، لأنه قرأ بدقة تفاصيل خريطة الطريق التي كانت تُرسم بعناية، فيما لو بقي الفراغ مسيطراً على الموقع الدستوري الأول في البلاد.
أراد الحريري أن يمحو هذه الخريطة من الوجود، وأن يتحوّل المؤتمر التأسيسي وتغيير المعادلة السياسية اللبنانية عند البعض، الى حلم يتبخّر لحظة إعلان دعمه عون لرئاسة الجمهورية.
ويكون قد حقق اضافة الى ذلك، ثلاثة أهداف رئيسة:
الأول: المحافظة على «اتفاق الطائف» وعلى النظام السياسي القائم في البلاد، والذي دفع والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري أثماناً باهظة لحمايته وتثبيت مداميك الحكم فيه.
الثاني: أكد أنه رجل المبادرات الأول في لبنان، حتى ولو كان هذا الأمر على حسابه الشخصي ورصيده الشعبي، وهو ما ألمح اليه في إطلالته الاعلامية الأخيرة.
فالحريري يملك كلّ الثقة بقاعدته ومناصريه ومؤيّديه، ويعلم تماماً أنّ ما غاب عنهم اليوم، أو ظنوه تراجعاً واستسلاماً، سيدركون لاحقاً بأنه انتصار لمشروعهم، ولتيارهم، انتصار لمشروع الرئيس الشهيد رفيق الحريري في المحافظة على الوطن والكيان اللبناني.
الثالث: أظهر أنّ زعامته ليست موضع تشكيك، وأنه صاحب الكلمة الفصل.
وكلّ ما يظهر بين الفينة والأخرى من محاولات فردية لمزاحمته في موقعه، أو محاولة استفراده وحشره في زاوية المواجهة مع جمهوره ومحبّيه، ليست واقعية وتعتمد غالباً على تضخيم الوقائع، لبناء عليها استنتاجات وهمية!
أما على مستوى الطائفة السنّية، فكان الحريري يعلم بأنّ مجرّد إعلانه دعمَ عون للرئاسة، سيعطي مَن يقف له في المرصاد، حجّة لإطلاق سيل من المزايدات والشعارات الفضفاضة، في محاولة لاستمالة ردة الفعل الشعبية الغاضبة والرافضة للقرار لدى الشارع السنّي، كما جرت العادة في مناسبات سابقة!
بالفعل، وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة من إعلان الحريري بأنه سيصوّت لعون، بدأت علامات الاستنفار والهجوم من بعض القيادات السنّية على قراره، باعتباره تخاذلاً وتراجعاً مستمراً في المواقف السياسية، وتسليم البلد الى المحور السوري – الإيراني، وبعده عن توجّهات الشارع السنّي، وتُرِكت لمواقع التواصل الاجتماعي إعادة نشر الصور ومقاطع الفيديو التي تظهر مواقف عون بحق الطائفة السنّية، للتدليل على خطورة ما أقدم عليه الحريري!
لكن في المقابل، لم يخيّب الشارع السنّي ظن الحريري به، وتجلّى ذلك من خلال مشهدين مهمَّين:
الأول: فشل الاعتصام الذي دعا اليه اللواء أشرف ريفي أمام مكتبه في طرابلس، والذي حُكيَ قبله عن استقدام المئات والآلاف من المناصرين الغاضبين من الحريري وتياره من مختلف المناطق اللبنانية، لتظهر عدسات الكاميرات وأرقام الأجهزة الأمنية الرسمية أن عدد المعتصمين لم يتجاوز 800 شخص!
الثاني: اجراء الانتخابات الداخلية في كلّ منسقيات تيار «المستقبل»، لاختيار مندوبين يشاركون في المؤتمر العام المزمع عقده في 26 و27 من الشهر الجاري. حيث أظهرت نسب المشاركة العالية بالاقتراع في مختلف المناطق مدى التفاف أبناء «المستقبل» وكوادره حول زعيمهم.
ولعلّ المؤشر الأهم والأبرز، جاء من منسّقية طرابلس. إذ على الرغم من نجاح مندوبي معظم الدوائر والقطاعات فيها بالتزكية، إلّا أنّ بقاء المنافسة في عدد محدود من القطاعات والدوائر، لم يمنع من توافد نحو 60 في المئة من الهيئة العامة للاقتراع لمندوبيهم، والمشاركة في التجربة الانتخابية الأولى في «التيار». الأمر الذي انسحب أيضاً على العاصمة بيروت والمنية والبقاع وصيدا والبترون وجبيل وعكار، وبقية المناطق اللبنانية.
ثمّة مَن يتساءل: هل الهجوم على الحريري لمساهمته الأساسية في إيصال عون الى سدة الرئاسة، وتحديداً من بعض الشخصيات السنّية نابع حقيقةً من دفاعها عن مصالح الشارع الذي تمثله؟ وهل الخيارات التي اتّخذها البعض فيما مضى نابعة من مصالح هذا الشارع ووفق إرادته وأهوائه؟ ألم يكن شعار المحافظة على الاستقرار والنظام، أساس قبولهم بالمناصب الدستورية؟
لكنّ ثمّة مَن يجيب بأن دخول الحريري مجدداً الى السراي الحكومي، وفيما لو سارت الأمور على ما يرام بينه وبين بقية الأفرقاء وتحديداً المسيحيين منهم، سيشكّل لتلك الشخصيات كارثة سياسية وشعبية حقيقية، ستمتدّ حتماً الى ما بعد الانتخابات النيابية. ومن بعدها «يخلق الله ما لا تعلمون».