كتب وسام أبو حرفوش في صحيفة “الراي” الكويتية:
نجح زعيم “تيار المستقبل” الرئيس سعد الحريري، الذي ركب “المخاطرة الكبرى”، في قلْب المشهد اللبناني المأسوي رأساً على عقب، فأنقذ في مبادرةٍ، بدتْ كأنها “انتحارٌ”، البلاد من موتٍ سياسي استمر عامين ونصف عام، وكاد أن يؤدي الى الذهاب بالدولة المشلولة إلى “مثواها الأخير”.
فالحريري، العائد رقماً صعباً بعد كل ما قيل عن إنه كـ “العسكر المهزوم”، جعل من المجازفة برصيده السياسي والشعبي الآخذ بالتراجع، مفتاحاً للعبور بلبنان من مقلب الى آخر… طوي الفراغ الرئاسي وانتُخب العماد ميشال عون “الرجل الذي لا يُتوقع” رئيساً للجمهورية وانفرجت أسارير المسيحيين.
وفي رحاب “جرأةِ التنازل” التي يفاخر بها زعيم “المستقبل”، بدأ عهدٌ جديد بـ “خطاب قسَمٍ” خطَب ودّ الداخل والخارج، وكأنه “العصا السحرية” التي استدرجت تأييداً من إيران والسعودية، من أميركا وروسيا، ومن جهات الأرض الأربع، حتى صار صعباً اكتشاف “الأب الفعلي” لتسويةٍ اسمها الحركي “عون – الحريري”.
ويعود الحريري، على متن تأييدٍ “مرموق” من الكتل البرلمانية، الى السرايا الحكومية للمرة الثانية، لكن بفارق سبعة أعوام تغيّر معها لبنان وتدحرجتْ خلالها دولٌ في المنطقة واختلف العالم عما كان عليه… وكذلك تغيّر الحريري نفسه العائد من دون ثورةٍ ولا… ثروة.
لم يعد لبنان كما كان حين كُلف سعد الحريري تشكيل حكومته الأولى في حزيران 2009، أي بعد أربعة أعوام على اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري بأكثر من طنّ من المتفجرات في “زلزالٍ” هزّ لبنان والعالم، وبعد انتخابات نيابية حصلت للتوّ وحققتْ فيها قوى “14 آذار” انتصاراً مدوياً، قبل ان يصبح هذا التحالف… أثراً بعد عيْن.
يومها خسرتْ “الثورة المضادّة” الانتخابات، لكنها نجحتْ في الانقلاب على “الثورة الناقصة” فاحتجزت تشكيل الحريري لحكومته الأولى 135 يوماً ثم أطاحت بها بانقلابٍ سياسي – دستوري لحظة دخول رئيسها البيت الابيض للقاء باراك اوباما، قبل ان تقصي “القمصان السود” زعيم “المستقبل” من السلطة والى خارج لبنان.
ومع خروج الحريري من السرايا الحكومية “عنوةً” في كانون الاول 2011 بأمرٍ من “حزب الله” وبـ “بيان رقم واحد” من دارة عون، وعودته إليها “عنوةً” في الـ 2016 عبر تَفاهُم ضمني مع عون و”حزب الله”، كان الإقليم قد سقط في قبضة حروبٍ بلا هوادة تحوّل معها “حزب الله” جيشاً نقّالاً كـ “رأس حربةٍ” في المشروع الايراني، يقاتل في سورية والعراق واليمن وحيثما اقتضت الحاجة.
في سورية، صار الرئيس بشار الاسد زعيماً لـ “ميليشيا نظامية” كسواه ممّن يتقاتلون في ساحة الـ”ميني” حرب عالمية ثالثة التي تديرها روسيا والولايات المتحدة بوسطاء اقليميين وجماعات بأيديولوجيات عقائدية من كل حدب وصوب. وفي العراق واليمن وليبيا، دولٌ تتهاوى ومقابرُ تلتهم الناس والجغرافيا والتاريخ والأحلام كما المستقبل.
العالم هو الآخر اصبح شيئاً آخر مع “الكاوبوي” الذي صار روسياً هذه الأيام، والاميركيّ الذي يكاد ان يتحول “نمراً من ورق”، والبريطاني الذي دفعتْه “الشعبوية” الى إدارة الظهر للاتحاد الاوروبي، وكأن “الدونالدترامبية” موضةٌ جديدة تهزم الانتلجنسيا والحضارات حتى في عقر دارها.
هكذا دار التاريخ ومعه الجغرافيا دورته، حين غُدِر بالحريري فغادر في الـ 2011، وحين غامر بخيار عون في الـ 2016 وغدا كأنه الـ “مجبرٌ أخاك و… بطل” في نظر أنصاره الذين غفروا له سريعاً ما اعتبروه تنازلاتٍ من “اللحم الحي” لـ “حزب الله” ومرشّحه، ولايران ومشروعها.
… “محسوبكم سعد” في “بروفايل” الـ 2009 عندما شكّل حكومته الاولى، لم يعد يشبه الحريري في نسخة الـ 2016. فهذا الآتي من “لعبة الأقدار” كان مالكاً لثروةٍ تجاوزت الـ 3 مليارات دولار ورمزاً لثورة “ربيع بيروت”، وهو الآن عائد وكأنه “صانع المرحلة” ولسان حاله “أنفقتُ ما ورثتُ دفاعاً عن حلمِ مَن أورثني ثروةً وثورةً، وذهبتْ الثروة حمايةً للثورة (…)”.
في 2009 كان يحلو الكلام عن “الشاب الوسيم، ابن الشهيد، زعيم الغالبية، الطبّاح الماهر، السياسي الحديث، الغطّاس البارع، المحاوِر الذي يجيد الاستماع، المرح الطباع، هاوي الدراجات النارية، الهادئ المزاج و… الصلب”. وقيل ايضاً إن هذا الابن الذي كان سرّ أبيه وظِله في علاقاته السياسية بكّر في “تمرينه” وكان يُشاهَد في أروقة مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991.
وفي 2016، أطلّ الحريري بـ “مانيفست” سياسي أقرب الى “السهل الممتنع” يقوم على “عدوّي الفراغ ولن أكلّ او أملّ من اجل انتخاب رئيس للجمهورية”، فأطلق المبادرة تلو الأخرى بحثاً عن تسوية ما، في الوقت الذي أَخذ عليه بعض رفاقه “انك لستَ وحدك ام الصبي” من دون ان ينجحوا في لجْم اندفاعته في “المخاطرة الكبرى” التي لم تفلح في ايصال سليمان فرنجية، فأوصلت العماد عون.
ومن خطاب “الأسباب” الموجبة “لتبني ترشيح العماد عون، الى بيانِ قبوله تشكيل الحكومة الجديدة، مروراً بـ “خطاب القسَم” للجنرال الذي استراح على الكرسي بعد معاركه الطويلة، نجح الحريري في “بروفايل” الـ2016 في تبديد الانطباع بأنه أبرم مجرد صفقة تعيده الى السلطة، وفي تعزيز صورة “رجل الدولة” الذي بادر فاستجابت له “اللعبة الخطرة” وتمكّن من صوغ إرادةٍ اقليمية – دولية بعد المحلية لـ “قلْب الصفحة” في لبنان.
لا الحريري ولا سواه ركبوا لعبة الخداع بأن لبنان الذي يستعدّ لاسترداد دولته من فم المجهول، قادرٌ على كسر التوازن المختلّ في المنطقة لمصلحة ايران، وجلّ ما يحاولون فعله هو حفظ التوازن في لبنان بعدما سلّموا بأن قتال “حزب الله” في “عموم” المنطقة شأن اقليمي أكثر مما هو داخلي.
والخائفون من مجازفة الحريري، والخائفون عليه، صاروا أكثر اطمئناناً الى انه كسب الجولة الأولى من المعركة حين أعاد الروح الى الآليات الدستورية التي كادت ان تصبح “من الماضي”، لكنهم ما زالوا يسألون عن “الخواتيم” وعيْنهم على الرجل الذي لا يُتوقع واسمه الآن… فخامة الرئيس ميشال عون.