كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
ليس واضحاً إذا كان كل الذين سمعوا «الجنرال»، في خطاب القسَم، يعلن الجهاد لتنفيذ «الطائف»، «في شكل كامل وغير استنسابي»، قد ارتاحوا إلى ذلك الموقف، أو أنهم بدأوا الاستعداد لإحباطه… أو لمواجهته بـ»حرب إلغاء» سياسية!بعد 26 عاماً، تمّت الأعجوبة، بوجوهها الثلاثة:
1 – إنّ العماد عون الذي خاض حرباً ضارية لإسقاط «اتفاق الطائف» هو الذي جاء اليوم لتنفيذه «من دون انتقائية واستنسابية، وتطويره وفق الحاجة من خلال توافق وطني».
2 – إنّ السوريين الذين قاتلوا عون وهزموه وتولّوا رعاية التنفيذ السيئ لـ»الطائف» وافقوا اليوم، مع حلفائهم، على وصوله إلى الرئاسة الأولى، بغطاء القوى الدولية التي قال يوماً إنها «تستطيع أن تسحقني لكنها لن تأخذ توقيعي».
3 – وصل عون إلى بعبدا في موكب «وحدة الدم» المسيحي مع الدكتور سمير جعجع الذي خاض معه حرب إلغاء مدمِّرة في ذلك الحين، كانت هي المعبر لولادة «الطائف»!
إذاً، إنه زمن الأدوار والمواقع المقلوبة. وربما يكون الزمن الذي تُكتَب فيه نهاية الأحزان للحروب القديمة التي لم تكتمل، بل أقفلها «الطائف»، «على زَغل»: «حرب الإلغاء» و»حرب التحرير».
وَعَد الرئيس عون في خطاب القسَم بإصلاح الخلل في «الطائف»، وهذا يعني في الدرجة الأولى التزام نص «الطائف» وروحه في إعلان أن لا شرعية لِما يناقض صيغة العيش المشترك، أي المناصفة.
والمناصفة كما يفهمها عون، وكما اعتاد تفسيرها «التيار الوطني الحر»، واضحة المعالم. وفي ظلّها قرّر تعطيل نصاب جلسة الانتخاب في المجلس النيابي 45 مرّة، لعامين ونصف العام، وفضَّل الشغور الرئاسي على أن يأتي رئيس للجمهورية «لا يمثّل المسيحيين».
لقد حقّق عون انتصاراً شخصياً بوصوله إلى القصر، وحقّق مقولة «الأقوياء» في طوائفهم، التي طرحها ذات يوم وقابلها كثيرون بالاستخفاف يومذاك.
إنّ التحدّي الأول، في تنفيذ «الطائف»، يكمن في اعتماد قانون انتخابات نيابية يلتزم معايير المناصفة الفعلية لا الصوَرية. فلا يأتي غالبية ممثلي المسيحيين في المجلس النيابي المقبل بلوائح الآخرين وبأصوات ناخبيهم.
وإذا كان يُراد الإبقاء على هذا الواقع تحت شعار الحفاظ على التنوّع- وهذا جيِّد وطنياً- فيمكن تحقيق ذلك في شكل متبادل، بحيث يُعطي قانون الانتخاب العتيد للمسيحيين أيضاً قدرة على المجيء بنواب غير مسيحيين، بنسَب متوازنة، ما يحافظ في آن معاً على المناصفة وروحية الشراكة الوطنية.
ولا عُذر هنا في التذرُّع بطبيعة التوزّع الجغرافي للناخبين المسيحيين على امتداد الرقعة اللبنانية. فقانون الانتخاب قادر على إيجاد الحلول والبدائل، إذا وُجدت النيّات.
والعماد عون في القصر الجمهوري سيتخلّى عن طرح «اللقاء الأرثوذكسي» الذي يمكن اعتباره ردّ الفعل الأقصى على تهميش التمثيل المسيحي. ولكن، هل ستتمّ ملاقاته إلى منتصف الطريق؟ وهل سيوافق عون على السير بقانون يكرِّس الواقع القديم، المَشكو منه؟
وفي عبارة أخرى: هل سيتصرّف عون تجاه الانتخابات النيابية كما تصرّف تجاه الانتخابات الرئاسية؟ أي هل سيعتبر أنّ التمديد للمجلس أفضل من تمرير الانتخابات بقانون مُجحف للمسيحيين؟ وهل يفضِّل تعطيلها إذا لم يكن يرعاها قانون انتخابات عادل يمثّل المسيحيين ويكرِّس الشراكة؟
التجربة أظهرت العكس. فالعماد عون اتخذ في ملف الانتخابات النيابية موقفاً يعاكس موقفه في ملف الانتخابات الرئاسية، إذ فيما كان يعطّل الانتخابات الرئاسية حتى تتحقق شروط الميثاقية، أصرّ على إجراء الانتخابات النيابية ولو بالقانون الساري المفعول، إذا تعذّر إقرار القانون العادل. ولذلك هو رفض التمديد مرتين للمجلس.
إذاً، سيكون استحقاق الانتخابات النيابية هو الامتحان الأول لمدى التزام العهد لتطبيق «الطائف»، «كاملاً وغير استنسابي». وعلى نتائج هذه الانتخابات، في أيار 2017 مبدئياً، سيُبنى العهد بكامله، وسيتقرَّر ما إذا كان سيلتزم الميثاقية بحكوماته وتشريعاته وقراراته كافة، أم أنه سيتابع المسار الذي اتّبعَته العهود السابقة، منذ الطائف.
وعلى الانتخابات النيابية وقانونها، ستتقرَّر الخطوات التالية في مسار تصحيح «الطائف»: تنفيذ البنود غير المنفّذة، وتصحيح تنفيذ البنود التي جرى تطبيقها في شكل سيئ. ولكن أيضاً، سيكون هناك استحقاق تصحيح الخلل في صلاحيات رئيس الجمهورية التي جاء بها «الطائف» نفسه، وجعلها أحياناً أدنى من صلاحيات وزير. فلا يضطرّ الرئيس، بعد اليوم، إلى البحث عن سُبل من خارج الدستور لتدعيم موقعه وقراراته.
يراهن كثيرون على أنّ العهد الجديد سيعيد التوازن المفقود في معادلة السلطة. ويبدأ ذلك بالتمثيل العادل في الحكومة. لكنّ القوى الأخرى كلها تنتظر أن تقطف ثمرة الأدوار التي أدّتها لولادة التسوية الحالية.
فالرئيس برّي يقول إنه رَدّ «الدَين الذي في ذمّته» إلى الحريري وسَمّاه لرئاسة الحكومة. وعلى عون أن يردّ الدَين لبري لأنه لم يعطّل نصاب الجلسة «الذي كان في جيبه»، وطبعاً عليه أن يردّ الدين للحريري الذي ساهم في إقناع السعوديين بتأمين التغطية للصفقة. وعلى الحريري أن يقدّر لـ«حزب الله» عدم إقدامه على «الخَربطة»، والموافقة ضمناً على تسميته!
إذاً، الجميع يريد اليوم أن يحصل على مكافأة ما. والجميع على حقّ في ذلك. ولكن في الواقع، الجميع «مُدَيِّن» و«مَدْيون» في الوقت عينه. وبدءاً من عملية التأليف الحكومي ستظهر الرغبات، وسيقوم كل طرف بتذكير الآخرين بما له من فضل عليهم وعلى التسوية.
وكان لافتاً أن يخاطب برّي عون، فور انتخابه، قائلاً: «أنتم ركن من أركان شرعية هذا المجلس». فهو بذلك أعطى الانتخاب بُعدَه الواقعي.
ولكن، على الأرجح، لم يكن عون أساساً في حاجة إلى التذكير، فهو اختبر من التجربة أنّ الأحلام في لبنان تمتطي جياد الواقعية لكي تصل، سواء أعجبها ذلك أم لم يعجبها.
واليوم، يأتي عون إلى رئاسة الجمهورية حاملاً أمانة تنفيذ «الطائف» لا إسقاطه. وهذا يعني أنّ على الذين دعموه قبل وصوله إلى الرئاسة أن يدعموه بعد وصوله أيضاً. فهل انتهى طموح بعضهم إلى المؤتمر التأسيسي مثلاً؟
إذا كان وصول عون إلى الرئاسة يُحقّق المعجزات الوطنية التي يعترف بها جميع حلفائه وخصومه على السواء، ألم يكن عدم الإقدام على انتخابه حتى اليوم خطيئة؟ وإذا كان وصوله اليوم هو مجرد خطوة اضطرارية ومرحلية، أليس من الجريمة عدم تحويلها لحظة تاريخية، من جانب الخصوم والحلفاء ومن جانب عون نفسه؟
وإذا كان عون يأتي اليوم للقتال من أجل «الطائف»، «كاملاً ومن دون استنساب»، ألن يصطدم بالقوى التي لطالما نفَّذت بنوداً في «الطائف» مجزوءة أو مزوَّرة من جهة، وتجاهلت تنفيذ بنود أخرى من جهة أخرى، أم انّ هذه القوى ستتجاوب معه؟ أليست هذه القوى هي إيّاها التي لطالما تَغنّت بـ«الطائف» وأخذت على عون أنه «مشاغب على الطائف»؟
لم يبدأ عون عهده بعد. ولا الآخرون بدأوا عهدهم مع عون. ولكن، في زمن الأدوار المقلوبة، سينتقم عون من «الطائف»… بتنفيذه. فهل سيردّ هؤلاء فينتقمون من عون بعدم تنفيذه؟
سيكون مثيراً مشهد الجميع وهم ينخرطون في اللعبة الجديدة، ويضطرون إلى كشف أوراقهم الحقيقية، أو إلى الاستعانة بأوراق من خارج الطاولة!