كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
كان واضحاً أنّ العماد ميشال عون في موقع رئاسة الجمهورية سيُتعِب كثيرين. فهل كان مستغرَباً أنه ليس المرشح المفضّل لـ«الكثيرين»؟توحي الأجواء بأنّ عون سيتعاطى مع أوّل حدث في عهده، أي تشكيل الحكومة الجديدة، بما يكرِّس المنحى الذي يريده للعهد، أي تغيير ذهنية التعاطي مع رئيس الجمهورية السائدة منذ «الطائف».
هناك مَن يقول: لقد انتظر عون عامين ونصف العام، وعطّل الانتخابات الرئاسية، لئلّا يأتي سواه إلى الرئاسة. فهل مِن المستغرب أن ينتظر بضعة أشهر لتأليف الحكومة إذا لم يكن مقتنعاً بها؟
بالنسبة إلى عون، هناك صلاحيات أخذها «الطائف» من الرئيس، لكنّ حالة الضعف التي مرَّ بها رؤساء الجمهورية بعد «الطائف» ليست بالضرورة ناتجة عن ضعف الصلاحيات، بل تعود في الدرجة الأولى إلى ضعف الرؤساء أنفسهم لأنهم لا ينطلقون من قواعد شعبية قوية، فيضطرون إلى الرضوخ لمصادر أخرى يستقوون بها. وهنا تكمن المشكلة.
يريد عون أن يستجيب تماماً لمتطلّبات «الطائف»، وهو لن يرتكب أيّ هفوة تسجَّل عليه في هذا الإطار. وهو يعتقد أنّ تنفيذ «الطائف» بحذافيره سيمنح رئيس الجمهورية قدراتٍ تعوِّضه الكثير ممّا فقده عام 1989.
مثلاً، من صلاحيات الرئيس الأساسية التي بقيت له في «الطائف» توقيعه ولادة الحكومة. فالدستور لا يفرض عليه مهلة زمنية للتوقيع، ولا يُجبره على قبول أيّ تشكيلة لا يقتنع بها. كما أنه لا يُحدّد مهلة زمنية لرئيس الحكومة المكلَّف في هذا الأمر.
إذاً، يستطيع رئيس الجمهورية أن يُمسك بأوّل حجر من حجارة بناء السلطة، أي مجلس الوزراء الذي منحه «الطائف» أيضاً صلاحية ترؤسه، كلما قرَّر حضوره. وهو لم يضع له ضوابط وشروطاً للحضور. فلا يمرّ أيّ قرار لا يرضى عنه في مجلس الوزراء، خصوصاً أنه أساساً مارس حقَّه الكامل في الموافقة على التركيبة الحكومية حجماً ونوعاً.
هذه الممارسة للصلاحيات- الباقية رغم «الطائف»- تعيد جزءاً كبيراً من الوهج الذي كان يتمتع به موقع الرئاسة قبل «الطائف»، في إطار عدالة التوزيع للمواقع بين الطوائف والمذاهب.
وممارسة هذه الصلاحيات تنسجم مع مفهوم المناصفة الذي يقول به «الطائف»، بين المسيحيين والمسلمين. فتحويل رئاسة الجمهورية إلى مجرّد صورةٍ، ولا دور لها، يضرب هذا المفهوم، وينقل لبنان من مفهوم الشراكة المسيحية- الإسلامية إلى مفهوم الشراكة السنّية- الشيعية.
وهذا الأمر لا يؤدي إلى ضرب «الطائف» نصّاً وروحاً فحسب، بل إلى ضرب فكرة لبنان ككيان، لأنّ المسيحيين هم الذين بادروا إلى الخروج قبل 100 عام من كيانهم الصغير، جبل لبنان، حيث هم غالبية ساحقة، إلى لبنان الكبير.
فالرئيس عون هو اليوم أمام مفرق حاسم:
1 – أن يكتفي بوصوله إلى رئاسة الجمهورية ويترك البلد رهينة المسار القديم المشوّه لـ»الطائف». وإذا فعل ذلك يكون قد أوحى للجميع أنّ عناده لعامين ونصف العام كان فقط من أجل الوصول إلى السلطة.
2 – أن يعيد «الطائف» إلى مساره السليم المفترض، ما يثبت للجميع أنّ معاندة الرجل لم تكن من أجل السلطة بل المشروع.
المحيطون بعون يقولون إنه في أيّ شكل، ومهما بلغ الثمن، لن يتخلّى عن المسار التصحيحي لا لمصلحة المسيحيين، بل للمصلحة الوطنية. فلن يستفيد أحد إذا تخلّى المسيحيون عن دورهم في لبنان. وأساساً، لا يمكن للبنان أن يستمرّ من دون المسيحيين.
لذلك، سيتشبّث عون بدور رئيس الجمهورية، بدءاً بتشكيل الحكومة، مهما طال الوقت لذلك. فهو لن يطالب بما لا يحقّ للرئيس أن يطالب به، لكنه أيضاً لن يترك لأحد أن يمارس حقاً مكرّساً لرئيس الجمهورية.
وعندما يتسلّم رئيس الجمهورية من الرئيس المكلّف لائحته المقترَحة للحكومة العتيدة ويبدي ملاحظاته عليها، ويبقيها لديه للدراسة، فذلك لا يجوز أن يُفسَّر بسوء نيَّة، لأنّ هذا السلوك هو الممارسة الدستورية السليمة.
فاللبنانيون اعتادوا ممارسة مغلوطة منذ نحو ربع قرن، وباتوا اليوم يُصدمون بالممارسة السليمة ويعتقدون أنها من خارج الدستور. ولكن، عندما يعود الجميع إلى نص الدستور وروحه سيكتشفون أنّ ما يقوم به الرئيس اليوم هو الذي ينطبق فعلاً على الدستور.
وكذلك، إنّ موقف عون وبكركي من «الفيتوات» في تشكيل الحكومة ليس موجَّهاً ضدّ أيّ طرف تحديداً، وإنما هو محاولة لتصويب ممارسة سابقة كانت مغلوطة وتأخذ من رئيس الجمهورية حتى الصلاحيات التي بقيت له بعد «الطائف».
ويؤكد المحيطون بعون أنّ كلّ أمنياته تتلخّص بعلاقات جيدة مع الجميع، حيث يمارس كلّ طرف صلاحياته الدستورية من دون زيادة ولا نقصان، وفي منطق الشراكة والتعاون الوطنيين، حيث لا يسعى أحد إلى الهيمنة على أحد.
عند هذه المسلَّمة، يصبح ممكناً تأليف الحكومة اليوم أو في مدى زمني غير محدَّد. فعون عاند عامين ونصف العام ليحقق عدالة التمثيل في موقع الرئاسة، وهو سيعاند لتشكيل الحكومة إلى أن يقتنع بعدالة التمثيل فيها، حسب رأيه.
المتابعون لمسار التأليف يقولون: هذا يعني أنّ الحكومة قد تتشكل في أيّ لحظة، ولكن قد تتأخّر. وإذا جاء موعد الإنتخابات النيابية المقبلة، فإنّ الحكومة العتيدة ستأتي نتيجة لهذه الانتخابات. وعندئذٍ، سيكون قد جرى خلط الأوراق كافةً، من جديد. والمعطيات التي ستطرأ هي التي ستتحكّم بهذا الملف.
ولكن أيضاً، في هذه الحال، هل ستتمّ الانتخابات النيابية في موعدها، قبل 20 حزيران 2017، أو بتأخير تقني لبضعة أشهر، أو ستكون في مهب الريح بسبب التوترات الناجمة عن الإخفاق في تشكيل الحكومة؟
الأسئلة تبدو مبكرة. وقد تدخل على اللعبة عناصر جديدة تحسم التوجّهات. ولكن، لا يبدو عون في صدد التراجع عن مساره.
عندما صعد عون إلى قصر بعبدا وتسلّم رئاسة الحكومة الانتقالية في 1988، كانت صلاحيات رئيس الجمهورية واسعة إلى حدِّ قول البعض إنّ لبنان يقترب من النظام الرئاسي لا البرلماني.
كان طموح عون أن يتولّى رئاسة «تلك» الجمهورية. ولكنّ مسار الحروب يومذاك أدّى إلى 3 أمور لا يرغب عون فيها:
– صلاحيات الرئيس تقلّصت في «الطائف» إلى حدّ القول إنه بات أقرب إلى «ملكة بريطانيا»، مع فارق أنّ الملكة تتمتع بمقام معنوي كبير كرمز للوطن، فيما رئيس الجمهورية اللبناني خسر موقعه المعنوي في ظلّ الطائف وممارساته.
– هو لم يصل إلى الرئاسة.
– المسيحيون أصيبوا بهزائم شاملة وذهبوا إلى المنافي الخارجية والداخلية.
يعود عون اليوم لتصحيح «ما أفسده الدهر». إنه يواجه «الدهر». حتى الآن، حقق جزءاً من المعجزة، وفي انتظاره معجزات كثيرة… فما الذي سيتحقّق؟