كتب الياس الزغبي:
أيُّ عقل ساذج يصدّق أنّ تشكيل حكومة العهد الأُولى متوقّف على حقيبة واحدة هي وزارة الأشغال؟
يكاد السياسيّون يُجمعون على أنّها العقدة الأخيرة، ويحاولون تبسيط الأمر ، أو تسخيفه لا فرق، إلى درجة تصوير هذه الحقيبة وكأنّها المرتجى والمنتهى وذروة الآمال.
يريد هؤلاء أن يصرفوا انتباهنا عن حقيقة المأزق وجوهر الأزمة، وكأنّ الاستعراضات العسكريّة في الداخل وعلى تخومه، والتهديد المتكرّر باستخدام القوّة المسلّحة الميليشويّة بحجّة الدفاع عن لبنان، وتطويق انفتاح العهد على بيئة لبنان العربيّة الطبيعيّة، وخطابه الاستقلالي الدستوري الموزون، كلّها جرت وتجري على هامش تشكيل الحكومة، ولا تربطها أيّ علاقة بانطلاقة الرئاستين الأُولى والثالثة.
في الواقع، يأخذ الرئيس نبيه برّي، عبر تفويضه المطلق أو “تكليفه الشرعي” من “حزب الله”، مسار الأزمة إلى تفصيل سياسي وخدماتي لإخفاء جوهرها.
فإذا وافق ثلاثي العهد على إبقاء حقيبة المال لبرّي خلافاً لمبدأ المداورة وتفادياً لتكريس حقيبة لطائفة أو مذهب، برز مَن يحرّم على “القوّات اللبنانيّة” وزارة سياديّة، وحين تقبل بهذا ال “فيتو” الخارج على الأُصول والمنطق، يظهر من يتصدّى لحقّها في حقائب أساسيّة بحجّة حجمها النيابي، وإذا تساهلت حول تخلّيها عن “الأشغال” مقابل “الصحّة”، جاهر برّي بوجوب حصوله على “الأشغال” و “التربية” معاً، إضافة إلى “المال” بحجّة تكريم “المردة” بوزارة أساسيّة!
وإذا طالب رئيس الجمهوريّة بحقّه في وزير من الطائفة الشيعيّة أسوةً بوزيره السُنّي، تأكيداً لرموزيّة الرئاسة الجامعة، رفع “المفوّض فوق العادة” عقيرته برفض التخلّي عن الوزير الشيعي الخامس.
وإذا قبل وليد جنبلاط بحقيبتي العدل والبيئة، تصدّى له مزايد في حقوق الدروز مدفوعاً من قاتل زعيمهم ومُصادر قرارهم في سوريّا ولبنان.
إنّها لعبة المتاريس نفسها، يستخدمها الفريق نفسه، متنقّلاً من متراس إلى آخر خارج طائفته (الشيعة)، فإذا سقط متراس، أو تغيّر موقعه، كما في حالة “التيّار العوني” بعد الرئاسة، بحث عن آخر، سواء من بين المسيحيّين أو السُنّة أو الدروز. هكذا يصبح “المردة” عنواناً لمتراس، ومليشيا درزيّة “جاهليّة” متراساً آخر، وعبد الرحيم مراد أو سواه متراساً ثالثاً يريدون فرضه على الرئيس في موقع وزيره السُنّي…
والمفارقة الفاقعة تكمن في أنّهم يحاولون فرض إرادتهم في تسمية وزراء من المسيحيّين والسُنّة والدروز، ويرفضون في الوقت نفسه المسّ بقدس أقداس “خماسيّتهم الوزاريّة”، إلاّ في حال ضمنوا أن يكون وزيرهم الخامس على شاكلة تلك “الوديعة” أو “الطابور الخامس” لدى الرئيس ميشال سليمان!
لقد شارك آنذاك الرئيس الراهن في ذاك الانقلاب عبر “الوزير الملك”، أو الخادم لا فرق، وهو الآن يتعرّض للعبة نفسها، ما يكشف أنّ “المشروع” هو نفسه، تتغيّر وسائله وظروفه، ويسعى تحت عناوين وشعارات شتّى إلى تحقيق أهدافه.
ما يجري منذ انتخاب الرئيس، أنّ هذا “المشروع” يتعثّر، برغم مظاهر قوّته من سوريّا إلى لبنان.
ولا يمكن تفسير التعقيدات ووضع السقوف العالية والشروط التعجيزيّة أمام تشكيل الحكومة، سوى محاولة تعويض التعثّر. فالعهد الجديد برمزَيه الأوّل والثالث، ورمزيّته السياديّة والشعبيّة المتجسّدة في صعود “القوّات”، وفي خطابه وأبعاده العربيّة، لا يُريح مشروع “محور الممانعة والمقاومة”.
وليس غريباً أن يضغط هذا المحور على انطلاقة العهد بتأخير حكومته، إلى أن يحسم حرب حلب كما يَعِد نفسه ويعده الروس. وإذا تمكّن الرئيس المكلّف من سدّ كلّ ثغرات برّي ومطالبه، فسينتقل التعقيد إلى مرحلة وضع البيان الوزاري.
ولعلّ فريق “حزب الله” تسرّع في الإشادة بخطاب القسم، عبر تصريح يتيم للشيخ نعيم قاسم، وقد سكت بعدها سكوتاً مريباً فضحه وصف أوساطه خطاب الاستقلال بأنه “باهت”. فهل يقبل ببيان وزاري منسوخ عن خطابات القسم والتهنئة والاستقلال وتصريح بكركي؟
في الحقيقة، بمقدار ما يفاخر “المحور” بنجاحاته و”انتصاراته الالهيّة” في سوريّا والإقليم، يبدو في لبنان مرتبكاً وحائراً بين عهد فاجأه فحاول تجويفه، وبين حكومة لا تلائمه فيحاول تأخير تأليفها، فينقل إذذاك الوضع من فراغ رئاسي إلى فراغ حكومي.
ولا يُحسد على انخفاض مستوى متاريسه واختراقاته داخل الطوائف الأُخرى، فمن كانت بين يديه، في السنوات الأخيرة أوراق من حجم جنبلاط وعون وسواهما، وحاول إحراق أوراق كبيرة من حجم الحريري وجعجع وسواهما، يجد نفسه اليوم متحالفاً مع بدائل صغيرة، ومعانياً تصاعد القوى التي كافح وحارب.
على هذا المستوى الكبير، يدور الصراع الآن: يكون لبنان ذيلاً ل”المحور”، أَم أمام فرصة استعادة ذاته في الاستقلال والسيادة، وبناء الدولة خارج صراعات الخارج.
وليس الصراع على آخر حقيبة سوى غبار سياسي لحجب وضوح الرؤية.
فالحقيقة يخبّئها “الإشغال بالأشغال”.