كتب غسان سعود في صحيفة “الأخبار”:
ركّزت مفاوضات تأليف الحكومة الأضواء على حلفاء حزب الله. لكن التدقيق يُظهر أن هؤلاء بخير. أما من يجب الاطمئنان عليهم فهم مسيحيو تيار المستقبل، ومن يوصفون بالمستقلين والكتائب والأحرار وغيرهم؛ هؤلاء يتعرضون لـ”الإبادة” في سبيل تعزيز تمثيل القوات اللبنانية.
عام 2009 كان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يتوقع أن يشير رئيس تيار المستقبل سعد الحريري إلى كل من ميشال فرعون ونايلة تويني وهادي حبيش وعاطف مجدلاني وسيرج طورسركيسيان وجان أوغسبيان ورياض رحال وغيرهم بإصبعه لينتقلوا من كتلة المستقبل إلى كتلة القوات. فقائد القوات كان ينتظر من الحريري أن يعامله معاملة حزب الله للعماد ميشال عون، فيسلمه أمر التمثيل المسيحي كاملاً، بما في ذلك أهل بيته ويقدم له القرابين ليستأثر بحصة 14 آذار المسيحية كما يستأثر عون بحصة 8 آذار. إلا أن الحريري لم يحرك إصبعه، وقال ما معناه إن عطاياه النيابية لجعجع في زحلة والشوف والكورة يفترض أن تكفيه. وعشية تشكيل الحكومات لم يكن أمام جعجع مرة تلو الأخرى سوى الاعتكاف هرباً من ظهور حزبه وزارياً بحجم بطرس حرب أو ميشال فرعون أو حزب الكتائب.
أما رئيس كتلة المستقبل فؤاد السنيورة، فاستغل كل استحقاق سياسيّ مهم للإيعاز إلى مسيحيّي المستقبل أو ما يعرف بالمستقلين من أجل الاجتماع. فغداة تبني جعجع الظرفي للقانون الأرثوذكسي وعدة مناسبات أخرى حاول الحريريون القول إن جعجع لا يمثل غير حزبه فيما فعاليات 14 آذار المسيحية معهم. وفي وقت كان العماد ميشال عون يجمع في اللقاء المسيحي مثلاً العدد الأكبر من الفعاليات المسيحية، كان تيار المستقبل يبقي القوات اللبنانية في زاوية التمثيل دون عراضات.
لكن فجأةً، قرر سمير جعجع الخروج من القفص المستقبليّ بالتفاهم مع التيار الوطني الحر. حصة التيار والرئيس وقوى 8 آذار ثابتة في الحكومة لم ولن تمس، أما تيار المستقبل فكان يحصل في غالبية الحكومات على معظم الحصة السنية ونصف الحصة المسيحية التي يوزعها على: نائب أو أكثر من نوابه المسيحيين (نبيل دو فريج في الحكومة الحالية)، ونائبين أو أكثر على ما يوصف بالمسيحيين المستقلين (ميشال فرعون وبطرس حرب)، واثنين أو أكثر لحزب الكتائب، واثنين أو أكثر لرئيس الجمهورية الذي كان يدور في فلكه. إلا أن حصة الرئيس لم يعد يمكن وضعها في خانة المستقبل، والجديد كان انتفاضة القوات في وجه الحريري ــ وليس أي أحد آخر ــ للقول إن القوات لا المسيحيين المستقلين أو كتلة المستقبل أو الكتائب أو أي أحد آخر يمثل مسيحيّي 14 آذار. حتى تسمية ميشال فرعون وزيراً باتت تخرج من معراب لا من بيت الوسط. “نحن حلفاء” تقول القوات للمستقبل: “لكن، أنت تسمي الوزراء السنّة ونحن نسمي المسيحيين”. وبدل أن يرفض الحريري أو يقول إن لحرب وأصدقائه ديناً عليه منذ وقوفهم إلى جانب والده منذ اتفاق الطائف، ها هو يهزّ رأسه موافقاً على التضحية بهؤلاء. يقوم حزب الله بكل ما يلزم مع الرئيس العماد ميشال عون والوزير جبران باسيل وغيرهما من أجل إبقاء بيوت حلفائه السياسية مفتوحة، فيما يبارك الحريري إقفال بيوتات التويني والمر والبون ومكاري وحرب وكل من اتكلوا عليه.
لا شك في أن مقاربة تقاسم التمثيل المسيحي بين التيار الوطني الحر من جهة 8 آذار والقوات من جهة 14 آذار خطيرة باعتبار القوات حزباً معارضاً بشدة لحلفاء التيار، إلا أن المشكلة ليست مشكلة 8 آذار. فسواء كان الياس المر أو بطرس حرب أو أي قواتي هو الوزير، النتيجة هي نفسها بالنسبة إلى حزب الله. لا بل إن ملحم رياشي أقل خطورة بألف مرة ومرة من طارق متري، وشتان ما بين أنطوان زهرا والياس المر. المشكلة الرئيسية عند حلفاء تيار المستقبل وأزلامه. البالون الذي نفخه العونيون قد ينفجر لاحقاً في وجههم، لكنه الآن يقف في وجه الحريري، يمنعه من التنفس ويناوله الخنجر آمراً أن يتخلص ممن علّمهم وعمّر قصورهم وكبّرهم. المشكلة هناك وليس في أي مكان آخر. اسألوا المستشارين الأربعة أو الخمسة في غرف الحريري المغلقة عن القوات اللبنانية قبل أي أحد آخر. فما فعله حزب الله منذ سنوات لم يهدد النفوذ الحريريّ مباشرة، لكن معراب تقول للحريري اليوم: “القرار المسيحيّ في يدي وأنت تمثل الطائفة السنية في أحسن تقدير فقط”. في قيادة 14 آذار، كان ثمة سعد الحريري ووليد جنبلاط وصف طويل من المسيحيين حرص الحريري دائماً على أن لا يتقدم أحد منهم الآخر، فيما جعجع يقول اليوم: “أنا الصف كله”. يبدو الموقف العوني موجهاً في الشكل إلى حزب الله باعتبار القوات يعادي الحزب، لكن من يدفع عملياً الثمن هو تيار المستقبل فقط. والمأزق الحريريّ كبير، فرئيس المستقبل رفض مراراً أي مسّ بقانون الانتخاب يمكن أن يخسره الهيمنة المستقبلية منذ عام 1992 على غالبية المقاعد السنية ونصف المقاعد المسيحية، لكن جعجع يطرق باب المحظور اليوم ويقتحم المربع الحريري. وصحيح أنهما وجهان لمرجعية سياسية سعودية ــ أميركية واحدة، إلا أن قبول الحريري بالأمر الواقع الجعجعي مفاجئ و”خطير”. فمن يضمن أن لا تتعارض مواقفهما مجدداً كما حصل عدة مرات خلال العامين الماضيين؟ ومن يضمن أن لا تتضارب التوجيهات كما حصل مع الحريري والوزير أشرف ريفي؟ ولا شك أن الحريري اليوم منهك مالياً وسياسياً ولا تنقصه فوق معاركه الكثيرة معركة مع جعجع، إلا أن رفعه الرايات البيضاء يمثل تحولاً كبيراً في الحياة السياسية: عودة القوات اللبنانية بقوة معطى يجب التعامل بجدية معه، إلا أن المعطى الأهم هو عودة الحريري ليكون زعيماً سنياً فقط. وكما يفترض أن يعامل جعجع كرئيس كتلة وزارية تضم أربعة وزراء بطريقة مختلفة عن التعامل معه كرئيس كتلة وزارية تضم وزيراً أو وزيراً ونصف الوزير، لا شك أن التعامل مع الحريري الذي تضم كتلته خمسة وزراء سنّة ووزيراً مسيحياً سيختلف عن التعامل السابق معه حين كانت كتلته الوزارية تتألف من خمسة وزراء مسيحيين وخمسة سنة. والإصبع الحريريّ الذي لم يتحرك عام 2009، ها هو يشير إلى تويني وحرب وحبيش ومكاري ودو فريج ومجدلاني ورياض رحال ونضال طعمة وكل الآخرين أن يلحقوا بفرعون في إخلاء ديوانيته والذهاب متضرعين إلى معراب لتقبل بهم. هو يفعل ذلك، إلا إذا قرر الحريري استخدام رقعة الشطرنج التي تظهر في صور استقباله للسياسيين، وقام بنقلة نوعية لم يعتد اللبنانيون قيامه بمثلها منذ مباشرته العمل السياسي: أن يتبنى قانوناً انتخابياً يضمن صحة التمثيل، أو أن يخوض الانتخابات المقبلة في كل المناطق إلى جانب الذين يقفون إلى جانبه طوال 11 عاماً، وكانوا قرب والده منذ عام 1992. لكن حتى اللحظة، أداؤه لا يشير إلا إلى أنه ملتزم الحدود التي رسمها له جعجع.