كتبت ناتالي اقليموس في صحيفة “الجمهورية”:
أكثر من 12 ألف و400 يوم انتظرَت عائلة الرئيس الشهيد بشير الجميّل الصغرى والكبرى موعدَها مع العدالة. فبَعد 34 عاماً من “النوم على الجرح”، انعقَد أمس المجلس العدلي للنظر في الدعوى المحالة أمامه في قضية اغتيال الرئيس بشير الجميّل ورفاقه في العام 1982.قبل نصف ساعة من موعد الجلسة، بدأ أفراد عائلة الرئيس الشهيد بشير الجميّل والمحامون بالتجمّع أمام مدخل قصر العدل، وسط تدابير أمنية مشدّدة، واهتمام إعلامي لافت. كاميرات مزروعة عند المدخل حيث التعليمات صارمة: “الإسمو مِش مسجّل ممنوع يفوت!”.
“ميِّتنا ما بيموت”
طغَت الحماسة على ملامح النائب نديم الجميّل، فيما بدت والدته صولانج متأثّرة، فقالت قبل بدء الجلسة: “يحِزّ في قلبي أنّني انتظرت 34 سنة لآتيَ إلى المجلس العدلي وأشهد على محاكمة قتلةِ بشير”، مؤكّدةً “أنّ صبرَنا طويل وسنلاحق القضية… “ميتنا ما بيموت”. وأملت من المجلس العدلي “أن يعوّض التأخير ويتابع مسار المحاكمة سريعاً من دون تسرّع، مبديةً أملها بالعهد الجديد.
بعدها توجَّه الجميع إلى المجلس العدلي الكائن في الطابق الرابع من القصر. وكانت المحطة الثانية من التدابير المشدّدة، بدءاً من التدقيق في الهويات، تدوين الأسماء، تسليم الهواتف.
“عَشُو مستعجلين ما بتبلّش الجلسة دِغري”، تعليق أحد الأمنيين لم يأخذه الصحافيون ولا المحامون على محمل الجد، إذ استعجَلوا للوصول عند الثالثة “pile” إلى القاعة، ولكن سرعان ما تبيّنَ لهم أنّ الجندي كان على حقّ: “يَ ريت سمعنا منّو”، إذ بدأت الجلسة متأخّرةً ثلث ساعة عن موعدها المحدّد.
في التفاصيل…
كلّ دقيقة كانت تمرّ كأنها ساعة في حساب نديم، الذي بدأ ينفد صبره من الانتظار. مرّةً يردّ التحية على فلان، مراراً يتنقّل ذهاباً وإياباً في ممرّ القاعة، بين مقاعدها، وهو يحدّث رفاقه، فيما عينُه على عقرب ساعته والأخرى يَجول بها من الباب إلى قوس المحكمة.
أمّا شقيقته يمنى فظلّت جالسةً معظم الوقت إلى جانب والدتها صولانج على المقعد الأوّل من شمال القوس، وبجانبها رئيس حركة “التغيير” إيلي محفوض، ومنسّق الأمانة العامة لقوى “14 آذار” فارس سعيد. فيما جلسَ عن الجهة اليمنى النائب السابق حسن يعقوب ومعه مجموعة من المحامين. ولدى استفسارنا عن سبب حضوره جاء الجواب: “المجلس عندو جلسة الإمام موسى الصدر بعد الجميّل”.
وعند الرابعة إلّا ربعاً علت صرخة مدوّية “هيئة المجلس العدلي”، بالتزامن مع إلقاء التحية العسكرية ودخول هيئة المجلس المكوّنة من رئيسها القاضي جان فهد، والمستشارين: ناهدة الخداج، غسان فواز، بركان سعد وتريز علاوي، في حضور ممثّل النيابة العامة القاضي بلال وزني.
– فهد: “رَح نبلّش بملف اغتيال الرئيس الشيخ بشير الجميّل”. فبدأ بالمناداة على الجهة المدّعية الممثّلة بالسيّدة صولانج لويس توتنجي الجميّل ووكلائها الأساتذة: نعوم فرح، كميل حرب، جورج شرفان، عبد الحميد الأحدب، إيلي الفغالي حضر عن الأستاذ سليم المعوشي والأستاذ بسام رزق عن الأستاذ إدمون رزق.
بعدها توجّه فهد إلى نديم سائلاً إيّاه: “بتحِبّ تدّعي لأنّ إسمَك مِش بالملف”. فأوضَح نديم أنّه وشقيقته يمنى بصفتهما وريثين للشهيد الجميّل إستمهلا لتصحيح الخصومة لناحيتهما.
وبعدها انتقلَ فهد لتعداد من لم يتبلّغ لعدم العثور عليه، ومن لم يحضر. وتوجّه فهد إلى ممثّل النيابة العامة لناحية رأيه بالنسبة إلى الذين تمّ إبلاغهم ولم يحضروا، فردّ وزنة: “أترك الأمر لتقدير المجلس”. وبينما كان فهد يدوّن على ورقة أمامه جفّ حبرُ قلمه، فاستعار قلماً مِن أحد القضاة: “عطيني قلم هيدا مِش عم يكتب،.. مِرسي”.
أنا بدّي أركض بالجلسات…
وقرابة الرابعة، نادى فهد على المتّهمين حبيب طانيوس الشرتوني ونبيل فرج العلم، فتبيّنَ عدم حضورهما وعدم تبلّغِهما موعد الجلسة. على الأثر قرّر المجلس محاكمة المتغيبين من دون عذر بالصورة الغيابية، وقال فهد: “لأنّه ورد في بعض الصُحف اللبنانية خلال شهر أيّار 2014، خبرٌ مفادُه أنّ المتّهم العلم قد توفّاه الله، تقرّر تسطير مذكّرة إلى المديرية العامة للأحوال الشخصيّة عبر النيابة العامة للتأكّد من شطبِ قيدِ المتّهم المذكور بالوفاة، وفي حال الإيجاب ضمُّ صورة طبق الأصل عن وثيقة الوفاة إلى الإفادة، وتسطير مذكّرة للمديريّة العامّة للأمن العام لإجراء تحقيق بهذا الخصوص وذلك على سبيل الحيطة”.
وقرّر المجلس إصدارَ قرار مهل بدعوة المتّهم الفارّ الشرتوني لتسليم نفسِه خلال 24 ساعة قبل موعد الجلسة المقبلة. وتمّ تحديد بداية الموعد في 13 كانون الثاني 2014، قبل أن ينتبه فهد “أنّنا سندخل العام 2017”، فقال: “مين حاطتلي 2014، أنا بدّي أركض بالجلسات”، لتُرجَأ الجلسة إلى 3 آذار 2017.
لماذا بعد 34 سنة؟
يعتبر نديم أنّ “لهذه الجلسة رمزية خاصة، فهي تحمل الكثيرَ مِن المعاني للعائلة، إنّها بداية مسيرة جديدة للعدالة في لبنان، وهي أساسية، نأمل خيراً وإيجابية، بحسب ما تبيّنَ مِن الجلسة الأولى، إذ لمسنا رغبةً في تسريع الملف لدى المجلس العدلي، وعلى تحديد جلسة سريعة”.
ويؤكّد لـ”الجمهورية” تمسّكَ العائلة بمحاكمة من اغتالَ الشهيد بشير وإقفال الملف بحكمٍ نهائيّ، سواء في حضور الشرتوني والمتّهمين الآخرين أو غيابهم”. وردّاً على سؤال: لماذا لم تُحرَّك القضية في الأعوام المنصرمة؟
يجيب: “تعرّضَت العائلة إلى ضغوط للَفْلفة الملف، إلّا أنّنا صَمدنا، والبرهانُ على ذلك أنّ الخطوة الأولى التي نفّذها السوريون في 13 تشرين في التسعين أنّهم حرّروا الشرتوني، وفي العام 1996 صَدر القرار الظنّي، وبعدها كنّا في فترة احتلال ونفوذ سوري، وصولاً إلى العام 2009 عندما انتُخِبتُ نائباً، وأوّل ما قمتُ به تشكيل لجنة من المحامين لمتابعة القضية، وفي أواخر العام 2011 طلبنا تحديد جلسة، وإلى اليوم حتى تجاوبَ معنا المجلس العدلي لتحديد موعد”.
ومن نديم رسالة من القلب إلى والدته: “ما قامت به والدتي في هذه السنوات وما اختبرَته لا يمكن لأحد تحمُّله، فهي من حافَظت على إرث بشير، أمّا لوالدي فأقول: “الحق ما بيموت وإنتَ أكبر من حكم قضائي، ولكنّنا نحتاج لهذا الحكم لضمان الحقّ، والعدالة لن تَخذلنا”.
أما شقيقته يمنى فتؤكّد “إيمانها بالقضاء والقانون”، موضحة لـ”الجمهورية” حرصَ العائلة على أن “تترك للقضاء أن يأخذ مجراه كما يجب”، آملةً “انتهاءَ نظام اللامحاسبة مع العهد الجديد”.
أبعد من المحاكمة…
من جهته، يؤكّد المرجع الدستوري المحامي إدمون رزق “أنّ الهدف في النظر إلى دعوى اغتيال الشيخ الرئيس بشير الجميّل ليس الثأر من أحد أو التعويض على أحد، لأنّ ما فَقده لبنان وذوو الشهداء سواء في القضية موضوع اليوم (أمس) أم في سائر القضايا المطويّة والمغيَّبة، هو أكبر وأكثر من أيّ تعويض، لكنّ إحياء الدعوى إنّما هو إشارة إلى أنّ لبنان يُحاول الخروجَ من دوّامة التخلّي والتسيّب والاستسلام لواقع مناقض لرسالته ومحِط لقيمِه الحضارية”.
ويوضح رزق في حديث إلى “الجمهورية”: “أنّ مؤسسة العدالة في لبنان معطّلة، وخصوصاً بالنسبة إلى نوع محدّد من الارتكابات والجرائم، التي نالت من رجالات الوطن وطاوَلت مرجعيات، منها رؤساء جمهورية استشهدوا، من الشهيد بشير الجميّل إلى الرئيس رنيه معوّض، مروراً بالشهيد كمال جنبلاط، وآخرين كثُر مِثل جريمة تفجير منزل المحامي عبد الحميد الأحدب وقتلِ طفلته جمانة، واغتيال الشهداء: المفتي حسن خالد، الشيخ صبحي صالح، الشيخ أحمد عساف، الشيخ حليم تقي الدين، سليم اللوزي، جورج حاوي، جبران تويني، سمير قصير وبيار الجميّل وغيرهم، كأنّ هناك حصانةً على نوع من القتَلة ونوعية من الجرائم”.
بين التخلي والتواطؤ
ويضيف: “اليوم بعد 34 سنة من التغييب في الأدراج والتعتيم، تُعيَّن جلسة أولى، علماً أنّ الملفّ شِبه مكتمل والتحقيق منجَز والقرار الاتّهامي الذي وضَعه المحقق العدلي القاضي سعيد ميرزا مدرَج في الملف ولم تكن هناك إعاقة إجرائية، بل كثير من التخلّي الناجم عن المحنة المتمادية التي تتخبّط فيها مؤسسة العدالة، وليس مردّ ذلك إلى تقاعسٍ قضائي بل إلى عدم توفير الأمن والأمان للقضاة”.
ويتابع رزق بنبرةٍ حاسمة: “يذكر اللبنانيون تماماً أنّ 5 من كبار القضاة قتِلوا على قوس المحكمة، وكلّ ما قامت به الدولة بكلّ مؤسساتها اقتصَر على وضعِ أكاليل غيابية في احتفالات شكلية.
إنّ هذا الواقع الشائن يشكّل إدانة لكلّ مَن تقاعَس خشيةً أو تواطؤاً أو مساومةً، ولا يمكن التماسُ عذرٍ لأيّ مرجع سياسي أو قضائي عن صمته أو ضلوعه المتمادي في الإحجام عن ملاحقة ومتابعة هذه القضايا التي تثقِل ضميرَ الوطن”.
ويلفت رزق “إلى أنّ المطلوب اليوم تأكيد عودة لبنان إلى منظومة الدول التي تحرص على مؤسسة العدالة التي وحدها تضمن الحقوق العامة والخاصة”.
وصمة عار
وردّاً على سؤال أين كانت القضية في الأعوام المنصرمة؟ يجيب رزق: “القضية محالة إلى المجلس العدلي منذ سنوات طويلة، خصوصاً بموجب قانون العفو الذي صدر عام 1991، فاعتُبرت الجرائم الواقعة على فئة من الأشخاص، منهم رؤساء الدولة، محالةً حكماً إلى المجلس العدلي، وطوال هذه السنوات حتى العام 2016 لم تتمّ العائلات كافة ورثة الشهداء، لأيّ جلسة، وهذا ناجم عن تعطيل متعمَّد لمؤسسة العدالة”.
ولماذا لم تتمّ محاكمة الشرتوني في فترة تولّي الرئيس أمين الجميّل رئاسة الجمهورية؟ يكتفي رزق بالقول: “ليس بوسعي التحدّث عن تخصيص المسؤوليات، إنّما المسؤولية شاملة”، رافضاً في الوقت عينه التوقّفَ عند مدى تفاؤلِه، قائلاً: “نحن اليوم في صَدد مباشرةِ إجراءات تأخّرَت 34 سنة، لا آخُذ الأمور بين تفاؤل أو تشاؤم، أنا رَجل واقعي أنطلق من ضرورة تحقيق العدالة وعدمِ التماسِ أعذارٍ ولا ذرائع للجريمة، فليس في قاموس العدالة ما يجيز القتل، وما يحاوله أفرقاء من المفاخرة والتباهي بالقتل هو وصمةُ عارٍ على جبين المجتمع ويشكّل جرماً مشهوداً في حد ذاته”.
وبعد انتهاء جلسة الجميّل، نظر المجلس العدلي في قضية الإمام المغيَّب موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي بدر الدين، فأرجَأها إلى 31/3/2017 لورود القرار النهائي عن المحقّق العدلي المتعلق بالقضية.