كتب عبد الرحمن عرابي في “العربي الجديد”:
مع انطلاقة العهد الرئاسي الجديد في لبنان وتحقيق حد أدنى من التوافق السياسي، كلّف وزير العدل المُستقيل في حكومة تصريف الأعمال، أشرف ريفي، لجنة قضائية بإعداد دراسة موسعة عن واقع السجون، وأسباب تأخر إصدار القرارات والأحكام القضائية. كما طلب وضع مشروع عفو عام عن “بعض الجرائم”، ودراسة مدى جواز إصدار مذكرات ووثائق عن مراجع أمنية أو إدارية تؤدي “ولو بطريقة غير مباشرة” إلى حجز حرية الأشخاص بدون قرار قضائي.
ومن شأن هذه الدراسة، إذا ما اعتمدت رسمياً وأُقرت في مجلس النواب، أن تساهم في خفض الاكتظاظ في السجون اللبنانية وتحسين علاقة أبناء منطقة البقاع الشمالي (بعلبك الهرمل) مع الدولة بعد تراكم عشرات آلاف مذكرات التوقيف الغيابية بحقهم. وتشير إحصاءات غير رسمية إلى تجاوز عدد الموقوفين والمحكومين في السجون اللبنانية عتبة 6 آلاف شخص خلال عام 2015، لم تتجاوز نسبة المحكومين منهم أكثر من 40 في المائة. وينتظر الموقوفون في السجون اللبنانية بدء محاكماتهم التي كان من المفترض أن تحصل منذ سنوات.
ويشير المحامي والحقوقي محمد صبلوح، إلى أن الفئات التي قد يطاولها العفو العام موزعة قضائياً وسياسياً وحتى طائفياً. ويمكن حصرها بـ”الموقوفين والمحكومين الإسلاميين، والمطلوبين إلى القضاء في محافظة البقاع، وعملاء العدو الإسرائيلي المقيمين خارج لبنان”. ويؤكد في حديث لـ”العربي الجديد” أن “إصدار مذكرات التوقيف وإطلاق الاتهامات الكبيرة على مئات الموقوفين والمطلوبين ضخّم من كمية العمل الحقوقي والقضائي المطلوب لإطلاق الموقوفين أو المطلوبين زوراً، وهو ما ساهم في إطالة أمد التوقيفات دون محاكمة وفي تحويل مواطنين مطلوبين بمخالفات بسيطة إلى خارجين عن القانون بأوسع معنى ممكن لهذا التعبير”. ويحتاج العفو العام إلى تصويت مجلس النواب على مشروع قانون للعفو يُرفع إليه، قبل أن يصبح ساري المفعول. وإلى جانب العفو العام، يمنح الدستور اللبناني رئيس الجمهورية الحق في إصدار عفو خاص عن المحكومين.
يقول الوزير أشرف ريفي لـ”العربي الجديد” إن لبنان في “بداية أجواء سياسية قد تسمح بإصدار العفو العام، لذلك كلفت اللجنة القضائية بالعمل على إعداد هذا المشروع”. ويُحدد وزير العدل أهداف عمل اللجنة بـ”الحاجة الملحة لخفض عدد الموقوفين والمحكومين في السجون، وبتخفيف حالة الاحتقان داخل الطوائف اللبنانية التي تشعر بالغبن”. ويُفصل الوزير في هذا المجال “الغبن الذي يعاني منه أبناء الطائفة السنية نتيجة استمرار العمل بوثائق الإخضاع والاتصال التي يصدرها الجيش اللبناني والأمن العام، على الرغم من قرار مجلس الوزراء بإلغاء العمل بها، ولكنها لم تلغ بشكل فعلي”، بحسب قوله.
ويلفت ريفي إلى “معاناة أبناء الطائفة الشيعية وتحديداً في منطقة بعلبك الهرمل من مذكرات التوقيف التي تلاحقهم وفي أحيان كثيرة لأسباب بسيطة. ويمكن لقانون عفو عام أن يُحسن من حياتهم بعد إلغاء هذه المذكرات”. كما يؤكد الوزير اللبناني أن “عدداً من الموقوفين والمطلوبين ملاحقون زوراً نتيجة إخباريات كاذبة أو وشايات كيدية، ولا بد من مقاربة الملفات بعدالة تسامحية وإنسانية”. وفي حين يؤكد أنه “لا استثناءات أو استنساب في عمل اللجنة وفي نظرها للملفات”، يُعبّر في المقابل عن رفض شمول المتعاملين مع العدو الإسرائيلي في مشروع العفو. كما يضع الملف برمته “بعهدة مجلس النواب المسؤول أولاً وأخيراً عن إقرار العفو”.
ويلقى هذا المشروع ترحيباً نيابياً يُعبّر عنه عضو كتلة “الوفاء للمقاومة” (كتلة حزب الله)، عن منطقة بعلبك الهرمل، النائب نوار ساحلي، الذي يؤكد أن “مشروع العفو العام في لبنان هو حاجة اجتماعية لمُختلف فئات المواطنين، وهو ليس محصوراً بالمُستحقين فقط بل يأتي في إطار مسامحة مشروطة بين المُرتكبين من جهة وبين المجتمع والدولة من جهة أخرى”. ويبدو أن أجواء سياسية إيجابية قد سرعت فعلياً مسار مشروع العفو العام، وهو ما تُعبر عنه بعض التصورات المبدئية إذ باشرت الأطراف المعنية بمتابعة ملفات من سيشملهم العفو العام.
ويُقدم النائب الساحلي مقاربة مُفصلة لشروط العفو لكل فئة من الفئات التي قد يشملها هذا العفو (الإسلاميين، الجنائيين، والعملاء). وفي ما يتعلق بالمطلوبين الجنائيين، يُوضح أن “هناك 40 ألف مذكرة توقيف صادرة بحق أبناء بعلبك الهرمل، ولكن ليس هناك 40 ألف مطلوب، إذ إن بعض الأشخاص مطلوبون بعشرات المذكرات دفعة واحدة”. ويؤيد عضو كتلة حزب الله النيابية العفو عنهم “ولكن بشروط تضمن عدم عودتهم إلى الأفعال الجرمية، مع استثناء جرائم المال العام وطلب تنازل أصحاب الحق الخاص عن حقهم في قضايا القتل والسرقة”. كما يطرح “منح العفو لمن ارتكب جرائم إرهابية ولكن قبل السنوات الخمس الماضية، لأن مرتكبي الجرائم الإرهابية خلال السنوات الماضية قاتلوا الجيش اللبناني وقتلوا عسكريين ومدنيين”. ويعترف بـ”مظلومية الموقوفين الإسلاميين”، مؤكداً أن بعضهم “قضى في السجن فترات تتجاوز الحكم الأقصى المتوقع صدوره بحقهم، وهذا ظلم”، وفق تعبيره.
وتؤكد مصادر متقاطعة لـ”العربي الجديد” أن الأطراف السياسية المعنية بإصدار مشروع العفو العام “حريصة على عدم إطلاق سراح إرهابيين خطيرين”. وبالنسبة لجرائم المخدرات إتجاراً وزراعةً وتعاطياً، وهي جرائم تنتشر في منطقة البقاع الشمالي لأسباب اجتماعية واقتصادية، يدعو الساحلي لتطبيق مقاربة مشابهة لباقي الجرائم. وتقوم هذه المقاربة على “إعطاء فرصة جديدة من خلال عفو مشروط بفتح كل ملفات المُعْفَى عنه في حال ارتكابه لأي جرم، بعد منحه العفو العام”. ومن باب تشديد العقاب اللاحق، يؤكد الساحلي أنه “مع رفع الإدغام (أي إمكانية تطبيق الحكم الأشد فقط بحق محكوم بمجموعة جرائم)، وهو ما يعني إصدار أحكام بالسجن لعشرات ومئات السنين على المجرمين رغم العفو”، بحسب قوله. وفي ملف عملاء إسرائيل المُقيمين خارج لبنان، يفتح النائب عن “حزب الله” الباب أمام “دراسة ملفات أبناء وعائلات العملاء فقط، أما من خان بلده مُتعمداً فلا يجب أن يعطى فرصة العفو”، على حد تأكيده.
يُقدم مشروع العفو العام، إذاً، فرصة لمواطنين لبنانيين حرمتهم الدولة من الرعاية الاجتماعية والاقتصادية، فسلكوا طرق التطرف والجريمة. لكن ربْط العفو عنهم بحالة التوافق السياسي في البلاد يُشير إلى احتمال تكرر الأزمة الحقوقية والإنسانية عند انتفاء حالة التوافق هذه. ويؤكد حقوقيون أن التركيز على عنوان “العفو العام” فقط دون تسريع المحاكمات وتحسين وضع السجون وشروط التوقيف والاستجواب، يُبقي رماد الأزمة ساخناً تحت نسمة العفو العام الباردة.