Site icon IMLebanon

متى يبُقّ الحريري البحصة؟

كتب محمد شقير في صحيفة “الحياة”:

فاجأ زعيم “تيار المستقبل” الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة سعد الحريري، المدعوين إلى حضور افتتاح المؤتمر الثاني لـ “المستقبل” بعدم الخوض في المخاض العسير لولادة حكومته، ما اعتبرته أوساط سياسية مراقبة قراراً بالنأي بنفسه عن الدخول في الاشتباك السياسي الذي يؤخر تشكيلها، لئلا يكون طرفاً في السجال الدائر حالياً بين الأطراف المعنيين بتأليفها، ويرمى عليه بالتالي جزء من المسؤولية بغية تخفيف الأعباء الملقاة على الجهات التي تتبادل الشروط في محاولة لتحسين موقعها في حكومة العهد الأولى.

ومن استمع إلى الخطاب الافتتاحي للحريري أدرك أن مسار تأليف الحكومة يواجه أكثر من عقدة، وهذا ما يبرر تغييبه كلياً مقاربة عملية التأليف، التي يبدو أنها ليست سهلة، على الأقل في المدى المنظور، وباتت في حاجة إلى مبادرة الأطراف إلى تقديم تسهيلات، أو بالأحرى “تنازلات” متبادلة لتسهيل ولادتها، على رغم أن البعض يحاول التخفيف من وطأة التأخير بذريعة أنها لم تتجاوز التوقيت الطبيعي لتشكيل الحكومات.

وفي هذا السياق، يبدي الحريري تذمراً، لم يظهر حتى الساعة إلى العلن، حيال تأخير ولادة الحكومة، لكنه يمارس في الوقت ذاته سياسة الصبر ويداوي العراقيل بطول البال مع أن الانتظار يمكن أن يفتح الباب أمام ظهور المزيد من العراقيل التي تدفع البعض إلى رفع منسوب شهيتهم للتوزير.

وتعتبر مصادر مواكبة لأسباب إعاقة الجهود الرامية إلى تذليل العقبات التي ما زالت تعترض تأليف الحكومة، أن العائق الأول يتمثل في إصرار جميع الكتل النيابية، بصرف النظر عن أحجامها، على أن تكون موجودة في هذه الحكومة التي يتعذر عليها أن تتسع لجميع الأطراف.

وتسأل المصادر نفسها عن مدى قدرة رئيس الجمهورية ميشال عون على ترجمة ما تعهد به أمام زواره في الأسبوع الماضي بأن الحكومة الجديدة سترى النور قبل نهاية هذا الأسبوع كحد أقصى، وما إذا كانت لديه معطيات سياسية غير مرئية تؤكد ما يقوله، على رغم أن الرئيس المكلف لم يسجل على نفسه أي موقف يلتقي فيه مع عون.

وتضيف أن صمت الحريري لا يعني أبداً أنه غير منزعج من تأخير تشكيل حكومته، وقد يكون لصمته حدود تضطره بعد انتهاء فترة السماح التي يتطلبها المزيد من المشاورات إلى مصارحة اللبنانيين بكل شاردة وواردة تتعلق بالأسباب التي تؤخر ولادتها.

 وتؤكد المصادر أن الحريري لن يبقى شاهداً على استنزافه بشروط من هنا ومن هناك، وتسأل أيضاً عن الجدوى من التأخير، وهل لها علاقة مباشرة بتوجس “حزب الله” من أمور عدة، أبرزها الهجمة العربية في اتجاه رئيس الجمهورية، والتعامل معها وكأنها عامل قوة يضغط للإسراع في تشكيل الحكومة.

ناهيك بأن “حزب الله” -وفق المصادر هذه- لا يرتاح إلى الثنائية القائمة بين “التيار الوطني الحر” وبين حزب “القوات اللبنانية” بزعامة سمير جعجع، في ضوء ما تبين له من أن هناك تفاهماً مكتوباً بينهما يتعلق بتوزيع الحقائب الوزارية وأيضاً بالمساواة في عدد الوزراء، إضافة إلى أنه يتحسب منذ الآن لإمكان تحول في سياسة رئيس الجمهورية، لأن عون اليوم هو غيره قبل انتخابه رئيساً للجمهورية.

كما أن “حزب الله”، وإن كان يخفي اعتراضه على هذه الثنائية بالكتمان، لأنه لا يريد أن يخدش تفاهمه مع “التيار الوطني الحر”، فإنه في المقابل يبدي ارتياحه للهجوم الذي يستهدف “القوات” بذريعة أنه سيمثل في الحكومة بحجم سياسي يتيح له المناصفة في توزيع الحقائب مع حليفه رئيس “التيار الوطني” الوزير جبران باسيل، وأيضاً يسعى إلى التقليل من الحضور المسيحي المستقل في الحكومة إذا لم يتمكن من إلغائه كلياً.

وهناك من يحمّل “حزب الله” مسؤولية مباشرة حيال الثقل الوزاري لـ “القوات” في الحكومة، ويعزو السبب إلى أن مقاطعته الجلسات النيابية التي كانت مخصصة لانتخاب الرئيس حالت دون إنهاء الشغور الرئاسي في حينه بانتخاب زعيم “تيار المردة” النائب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية.

فلو أتيح انتخاب فرنجية رئيساً بتراجع “حزب الله” عن مقاطعة جلسات الانتخاب وتأمين النصاب لانتخابه بدلاً من إصراره على مراعاة حليفه الآخر العماد عون، لكان حجم “القوات” في الحكومة أقل من الحجم المعطى له في الحكومة التي لم تولد حتى الساعة، وبالتالي كان في غنى عن توجسه من تحالف حليفه “التيار الوطني” مع “القوات”.

لذلك، فإن تأخير تشكيل الحكومة لا يكمن في تبادل “الفيتوات” بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري و “القوات” فحسب، وإنما أيضاً في اعتراض “حزب الله” على الحصة الوزارية المقترحة لـ “القوات” في الحكومة العتيدة، وبالتالي مطالبته بأن تتشكل من 30 وزيراً بدلاً من 24 وزيراً، لأن زيادة العدد تتيح له حجز مقاعد وزارية لحلفائه من الطوائف الأخرى، وهذا ما لا يحبذه الحريري، اعتقاداً منه أن مثل هذه الزيادة يمكن أن تستخدم في محاصرته، لأن العدد الفائض سيذهب لمصلحة الجهات الأقرب إلى “حزب الله” منه.

كما أن العقدة الأساسية التي تؤخر ولادة الحكومة تبقى محصورة في إصرار بري على أن يحتفظ الوزراء الشيعة بالحقائب ذاتها التي كانوا يشغلونها في حكومة المصلحة الوطنية برئاسة تمام سلام، بذريعة أن “التيار الوطني” يحتفظ بحقائبه ولا يبدي استعداده للتنازل عنها.

ويُفهم من موقف بري أنه يصر على الاحتفاظ بحقيبتي المال والأشغال في مقابل احتفاظ “التيار الوطني” بالخارجية والطاقة، ويرفض أن يعطى الصحة كتعويض عن تنازله عن الأشغال التي ستكون من حصة “القوات” في الحكومة الجديدة إذا ما بقيت عملية توزيع الحقائب كما هي واردة في المسوّدة الخاصة بها التي يجري تداولها.

وتضاف إلى هذه العقدة الحقيبة الوزارية المقررة أن تكون من حصة “المردة”، والتي ما زالت غير محسومة، وهذا ما تبين خلال اللقاء الأخير الذي جمع الحريري مع وفد “المردة” الذي أصر على أن يعطى حقيبة من الحقائب الثلاث: الاتصالات، الطاقة والأشغال.

وكان فرنجية أبلغ الحريري في المشاورات التي أجراها مع الكتل النيابية فور تكليفه تشكيل الحكومة الجديدة، بأنه يرغب في أن يتولى “المردة” حقيبة أساسية، من دون أن يحدد له هذه الحقيبة.

وبالفعل -كما تقول المصادر المواكبة-، ارتأى الحريري في المرحلة الأولى من المشاورات أن تعطى التربية لـ “المردة” لكن فرنجية رفضها وأصر على أن يتمثل بالاتصالات أو الطاقة أو الأشغال العامة.

إلا أن المشكلة لم تبق محصورة بـ “المردة” وإنما بالخلاف بين بري و “القوات” على من يتولى الأشغال العامة، وهذا ما أدى إلى إعادة خلط الأوراق، مع أن رئيس المجلس تعهد أن يأخذ على عاتقه إرضاء فرنجية شرط أن تبقى الأشغال من حصته.

وعليه، فإن تبادل “الفيتوات” أدى إلى اختلاط الحابل بالنابل، لأن “التيار الوطني” و”القوات” لا يؤيدان إسناد التربية إلى “المردة” ويصران على أن يحتفظ بحقيبة الثقافة التي يشغلها حالياً الوزير المستقيل روني عريجي.

ولعل من الأسباب التي يتم التداول فيها وتتعلق بحجب التربية عن “المردة”، أن فرنجية أعاق بترشحه للرئاسة انتخاب عون رئيساً للجمهورية قبل أشهر من انتخابه، وبالتالي لا بد من معاقبته.

وعلمت “الحياة” أن خفض تمثيل فرنجية في الحكومة يعود في الدرجة الأولى إلى تقديمه وكأن لا حيثية سياسية له، وأن توزير “المردة” جاء بضغط من حليفه الشيعي، بذريعة أن المعركة التي تتسم بطابع تصفية الحسابات في الشارع المسيحي ما زالت قائمة ولم تنته بانتخاب عون رئيساً.

 كما أن خفض تمثيله يتعلق بإعادة ترتيب الشارع المسيحي لاقتسامه مناصفة بين “القوات” و “التيار الوطني” لقطع الطريق عليه كمرشح لرئاسة الجمهورية، بعد أن دخل نادي المرشحين من بابه الواسع، وتمكن من أن يتصالح مع الشارع السني ويبقي على تحالفه مع الشيعة من دون أن يعرض تحالفاته الإقليمية إلى اهتزاز، إضافة إلى أنه حجز لنفسه إطلالة على المجتمع الدولي.

لذلك، فإن معركة “التيار الوطني” و “القوات” مع فرنجية تبقى أكبر من الخلاف على حقيبة وزارية، وهي مفتوحة على الوضع المسيحي في المستقبل، وتحجيم “المردة” يحوله ضحية سيستغلها في التحضير لمعركته الانتخابية في زغرتا، وربما في مناطق أخرى. خصوصاً أن الأسماء الارثوذكسية المطروحة لتولي حقائب وزارية لا تلقى ارتياحاً لدى الكنيسة التي تأخذ على أكثر من مسؤول أنه تجاهل التشاور معها ومع القيادات الأرثوذكسية وسعى إلى اختصار تمثيل الطائفة بمحازبين.

ويمكن أن تتطور المشكلة مع الأرثوذكس في حال ثبت أن هناك نية لإسناد الدفاع إلى الوزير الكاثوليكي ميشال فرعون كحل وسط بين “القوات” و “التيار الوطني”، باعتباره يصنف في خانة الحليف المشترك، على أن تبقى نيابة رئاسة الحكومة من حصة الأرثوذكس.

وحده زعيم “اللقاء النيابي الديموقراطي” وليد جنبلاط لم يعترض على إسناد العدل وشؤون المهجرين للدروز، بعد أن صرف النظر عن تمثيله بحقيبة البيئة التي يتردد حالياً أنها ستكون من حصة “التيار الوطني” أو حليف له يختاره. وتعزو مصادر مواكبة السبب إلى أن هناك ضرورة لوضع اليد عليها لاستكمال تنفيذ سد جنة الذي ثبت من خلال الدراسات التي أجرتها وزارة البيئة عدم جدواه، وإلى أن وجود مثل هذا الوزير سيرعى إعداد دراسة أخرى مناقضة لها تدفع في اتجاه متابعة تنفيذه.

ويبقى السؤال: إلى متى يستمر الحريري في ممارسة سياسة الصبر والصمت؟ وهل يختار التوقيت المناسب في حال استمر تأخير تشكيل الحكومة ليبُقَّ البحصة بوضعه النقاط على الحروف، لأنه ليس في وارد أن يتعرض لمزيد من الاستنزاف؟