كتب رضوان مرتضى في صحيفة “الأخبار”:
حال الجيش قبل توقيف المطلوبين عماد ياسين وأحمد أمون ليس كما بعده. قد يقول قائل إنّ موقوفَين لن يُقدِّما أو يؤخرا في سجل جيش. غير أن الواقع أمرٌ آخر، لناحية نوعية المطلوبين وأسلوب التنفيذ الاستثنائي. إذ أعادت هاتان العمليتان الثقة الحقيقية بالجيش، لا قولاً عبر الشعارات والمزايدات، بل فعلاً. فمع كل عملية، كان كُثر يشكّكون فيها.
وتُتداول أسئلة على شاكلة: هل يعقل أنّ لدى الجيش القدرة على تنفيذ عملية كهذه؟ ألم يستعن بحزب الله أو باستخبارات أجنبية؟ ما مدى جدية هذه العملية؟ لكنّ حجم ياسين وأمون ونظافة عمليتي توقيفهما (وقبلهما عمليتان مشابهتان في جرود عرسال، لكن لموقوفين أقل أهمية) حجزا للجيش موقعاً متقدماً في مجال مكافحة الإرهاب. حتى في قلب العدو، فمن كان يسرح ويمرح مطمئناً في مخبئه إلى أن الجيش عاجز، بات يدرك أنّ يد الجيش قد تطاوله في عقر داره في أي لحظة.
لم يكن سهلاً القرار الذي اتّخذته قيادة الجيش (استناداً إلى تقديرات مديرية المخابرات ودراستها) بالضرب خلف خطوط العدو. المخاطرة كان لا بدّ منها. فالخطر أصبح وشيكاً وداهماً من خلايا إرهابية محددة المكان، لكنّها كانت صعبة المنال حتى أشهر قليلة مضت. بناءً عليه، كان القرار بضربها في عقر دارها لإنهاكها وقطع الطريق عليها. فالأمن الاستباقي بالذهاب إلى العدو لضربه وتوقيفه حاجة ملحّة، بدلاً من انتظار قدومه وترقبه ريثما يضرب. وقد جاءت النتائج الميدانية وفقاً للتوقعات، لتؤكّد أن هذه المخاطرة كانت محسوبة.
العمليتان الأبرز كانتا توقيف أميرين في أكثر التنظيمات تشدّداً في العالم. عماد ياسين الملقب بـ «أبو هشام»، أمير «الدولة» في عين الحلوة الذي أوقف في ٢٢ أيلول الماضي، وأحمد يوسف أمون الملقب بـ «الشيخ أبو يوسف»، أمير «الدولة» في عرسال الذي أوقف منذ يومين.
في العمليتين الأولى والثانية، تولّت المهمة مجموعة خاصة: جمعت المعلومات ودرست المخاطر ثم حددت الزمان والمكان المناسبين للانقضاض على الفريسة. كان أفراد هذه المجموعة على يقين بأنّ العملية ستكون نظيفة ولن تُهرق نقطة دماءٍ واحدة إذا ما نُفِّذت الخطة كما رُسِم لها. وحرص القيِّمون عليها على سرية العملية وأُخفيت كافة تفاصيلها عن كافة الوحدات والفرق. بل أخفيت عن معظم أفراد المجموعة نفسها الذين لم يُبلّغوا بتفاصيل العملية إلا في اليوم نفسه.
رُصِد عماد ياسين لمدة شهر وعشرة أيام. وبعد تحديد منزله، استؤجِر محل سمانة يبعد عدة أمتار عن المبنى الذي يقطنه. جُهِّز المحل الذي يشرف على طريق يرتاده ياسين يومياً. أُحدِثت ثغرة تؤدي إلى خارج المخيم ليكون بمثابة ممر لمنفذي العملية. استُحضِر شابٌّ من خارج المخيم، بالتنسيق مع استخبارات الجيش، ليشغل المحل المذكور. أثناء تجهيز المحل، لفت انتباه ياسين أعمال تلحيم وأصوات «مقدح» قريبة. أرسل ياسين ابنه للتأكّد مما يجري، لكنّ الأخير لم يفطن إلى الأعمال الجارية في المحل، بعدما أبلغه صاحبه المفترض بأنّه يوسّع الواجهة. في موازاة ذلك، عمِل شاغل المحل، الذي كان بمثابة «مُخبر»، على التقرّب من ياسين. استوقفه في إحدى المرات شاكياً له تعرّض شابٍّ سوري له وشتمه العزّة الإلهية، فأمسك ياسين بالشاب المُشتكى منه (يعمل في محل برادات مواجه) في الطريق وهدده. سُجِّل ذلك في كاميرات المراقبة.
أظهر رصد «أبو هشام» أنّه كان دقيقاً في مواعيده. لم يكن يتأخر دقيقة واحدة. يخرج إلى المسجد يومياً في تمام الساعة ١٢:٣٧ دقيقة (خلال فترة الرصد كان موعد الصلاة يتأخر دقيقة يومياً). كذلك كان حذراً في تحركاته، بحيث يتعمّد يومياً أن يصل بعد أن يكون جميع المصلّين قد أصبحوا داخل المسجد، ثم يكون أول الخارجين فور انتهاء الصلاة. وفي كلتا الحالتين، يكون الشارع شبه خالٍ. خلال فترة المراقبة، أحصى القيّمون على عملية الرصد عدد خطوات ياسين والوقت الذي يتطلبه وصوله إلى المسجد. حُدِّد شخصان مسلحان من مرافقيه، كانا عادة ما يقفان بعيدين عنه في أول الطريق أو يسبقانه على الدرب نفسه. وعلمت المجموعة أنّ ياسين يتنقّل حاملاً مسدساً (من نوع غلوك مزوّد برشّاش)، يضعه على وسطه، لكن خَلُص قائد المجموعة إلى أنّ عباءة ياسين ستعوق سحبه المسدس، وبالتالي، إنّ التقيّد بوقت التنفيذ مقدّس. أظهر الكشف وجود كاميرا مراقبة تعود لتنظيم «عصبة الأنصار»، على بعد خمسة أمتار عن المحل، وتكشف الدرب التي يسلكها ياسين يومياً. كان باستطاعة القوة الخاصة تعطيلها، لكن خشي عناصرها من لفت نظر محتمل قد يحدثه تعطيلها.
يوم العملية، فُرِز ثمانية أفراد فقط لتنفيذ العملية. وتوزّع قنّاصان على مبنيين كاشفين للإسناد في حال حصول تبدّل في الخطّة. وفي التوقيت المحدّد، انقضّت المجموعة على ياسين. أُنجزت العملية في أقل من دقيقة للحؤول دون تدخّل مرافقيه وقبل أن يتمكن من سحب مسدسه. سُحِب إلى داخل المحل، ومنه إلى خارج المخيم. ومن هناك، انطلقت ثلاث سيارات للتمويه، قصدت سيارة فرع استخبارات الجنوب. والثانية صيدا، فيما توجهت الثالثة التي كانت تقل ياسين إلى مبنى وزارة الدفاع في اليرزة. وأُبلغ اللواء السابع لتأمين طريق السيارة التي تقل «مطلوباً خطراً».
أما أحمد يوسف أمون المشهور بـ «الشيخ»، فلم يكن أفضل حالاً من ياسين. بعد مرور نحو شهرين، وقع أمون في يد المجموعة نفسها التي أطاحت نظيره في عين الحلوة، علماً أنه كان قد أصبح في مرمى الرصد منذ ثلاثة أشهر ونصف، أي قبل التخطيط لعملية ياسين. وكان قد بدأ البحث عن أمون بعد هجمات القاع الانتحارية. تكرر اسمه في إفادات عدد من الموقوفين الذين قبض عليهم الجيش، بعدما تبيّن أنّه أشرف لوجستياً على تجهيزهم ونقلهم. أمون ابن بلدة عرسال. وعلى جري عادة نظرائه في تنظيم «الدولة الإسلامية»، كان شديد الحذر في تنقلاته. تمكنت استخبارات الجيش من تحديد الأماكن التي يتنقّل بينها. أُحصيت ثلاثة مواقع، فيما رُصِدت ثلاث وسائل نقل يعتمدها (سيارة رباعية الدفع، دراجة نارية، Atv). كان يزور زوجته بشكل شبه يومي بعد صلاة المغرب، يقضي عدة ساعات لديها في عرسال قبل أن يغادر. يتنقّل بين موقعين، منشرة حجر لشخص من آل الحجيري، ويمكث أحياناً في منزل ملاصق لها يعود لقريبه من آل أمون، والموقع الثاني مخيّم في وادي الأرانب طُرِد منه قاطنوه قبل ثلاثة أشهر. استعدّت للعملية قوّة مؤلفة ٧٥ ضابطاً وعسكرياً من فرقة المكافحة. كانت العملية استثنائية من حيث الإعداد. رُصِدت المجموعة المستهدفة على مدى أسابيع.
حاولت المجموعة الخاصة دسّ منوِّمٍ لأفراد الخلية المتشددة لسحبهم نياماً، لكنّها لم تُوفَّق. شُدِّدت المراقبة عن كثب. طوال أسابيع، رُصِدَ «الأمير»، لتحديد كل حركةٍ وسَكَنة لتفادي وقوع أي خطأ. وحُدِّدت الطرقات التي يسلكها، ثم اتُّخذ القرار بسحبه حيّاً. صلاة الصبح كانت الثغرة التي عبرت القوّة الأمنية من خلالها. فقد كان أفراد المجموعة يصلّون صلاة الصبح ثم يخلدون إلى النوم بعدها. حُدِّدت الساعة الصفر بعد مرور ساعة على صلاة الصبح لضمان القضاء على أي فرصة مقاومة للمجموعة. وهكذا كان، بعدما وُضِعت طوافة على أهبة الاستعداد لإسعاف أي عنصرٍ قد يُصاب. وصلت القوات المهاجمة لتحاصر المخيم قرابة الثالثة فجراً. تسلل عناصر الجيش متخفين على متن سيارات بيك أب من داخل عرسال ليشكلوا طوقاً حول المخيم، وأوقفوا تحركاتهم مع حلول صلاة الصبح للحؤول دون لفت الانتباه. وفي تمام السادسة وعشر دقائق انطلق الهجوم. لم يكد يُطفأ ضوء الخيمة الأخيرة حتى ملأ صوت الرصاص الذي انطلق بغزارة أرجاء المنطقة. كان يُقصد إرهاب أفراد المجموعة لإجبارهم على الاستسلام من دون مقاومة. وهكذا كان، إذ استسلم أفراد الخلية الذين باغتهم الهجوم، باستثناء أمون الذي لم يكد يبادر بإطلاق النار، حتى أسقطه قناص عبر إصابة مباشرة في قدميه (صحته جيدة ولا خطر على حياته، لكن تكشف المصادر أنه لن يتمكن من السير مجدداً). كان في الخيمة رقم 40، بحسب المجموعة الراصدة. وقع أرضاً فيما سلّم باقي أفراد المجموعة أنفسهم. وقد نُقل الموقوفون على متن طوافة عسكرية إلى القاعدة العسكرية في حربتا، فيما نُقل الموقوف المصاب إلى المستشفى. وبحسب المعلومات الأولية، فإنّ عدد أفراد خلية أمون لا يزيد على أربعة عناصر، فيما الموقوفون الآخرون لا علاقة لهم. وكشفت مصادر أمنية أن بعضهم سبق أن أوقف وأُطلق سراحه، مرجحة احتمال تركهم في الأيام المقبلة.