كتب الان سركيس في صحيفة “الجمهورية”:
يَعتبر الكرسي الرسولي أنّ لبنان دخَل مرحلة جديدة بعد إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وهذه المرحلة قوامها عودة الدولة برأسها المسيحي للعب دورها في الشرق وسط الحروب المذهبية والتجاذبات السياسيّة الدوليّة.ونظراً الى أهمية لبنان، فقدّ شكّل عنصراً أساساً في نشاط البابا فرنسيس، وفي هذا الإطار سلّمه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي خلال زيارته الأسبوع المنصرم الى الفاتيكان تقريراً مفصّلاً عن الأوضاع في لبنان والشرق الأوسط.
وعلمت «الجمهوريّة»، أنّ تقرير الراعي تضمَّن أولاً شرحاً عن أوضاع لبنان الحالية بعد إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهوريّة، وما رافقه من أجواء إرتياح على الساحة المسيحية واللبنانية على حدٍّ سواء، أما النقطة الثانية فتتعلّق بتأليف الحكومة حيث أطلع البابا على العقبات التي تحول دون التأليف ومواقف مختلف الأفرقاء، كما تضمّن التقريرُ إضاءاتٍ على ملف النازحين السوريين والتحدّيات التي يواجهها لبنان جرّاء تضخّم أعدادهم خصوصاً مع الزيادة في عدد الولادات، وعدم إيجاد حلول حتّى الساعة وتخلّي المجتمع الدولي عن دعم لبنان.
وشرح الراعي في التقرير انعكاسَ الصراعات الإقليمية والحروب المجاورة على الوضع الداخلي، وأطلع البابا على أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط وما يعانونه، والغموض والخوف على مستقبلهم ورسالتهم وغيابهم عن صناعة سياسات المنطقة والمخاطر المتزايدة عليهم، إضافة الى دور الأسرة الدولية في كلّ ما يحصل لهم. وركّز التقرير على الشقّ الرعوي حيث تناول شؤون الكنائس الشرقية وأوضاعها الداخلية والتحدّيات التي تواجهها.
الحضور المسيحي
هذه النقاط التي حملها الراعي إلى البابا، لم تكن خافية على الفاتيكان الذي قاد إتصالات دولية خصوصاً لإنهاء الفراغ الرئاسي توازياً مع حركة مكوكية للسفير البابوي في لبنان غبريال كاتشيا.
وتؤكّد مصادر قريبة من الفاتيكان لـ«الجمهورية» أنّ الخوف الذي كان موجوداً على مصير لبنان طوال الفترة الماضية يتبدَّد شيئاً فشيئاً، فمن جهة عاد رئيس الجمهورية للعب دوره الوطني في حين أنّ جمهوريّات كبيرة تُهدَم أساساتها، ومن جهة أخرى ما زال بلدُ الأرز مُحيَّداً قدر الإمكان عن الحروب في المنطقة ويقف سداً منيعاً في وجه تمدّد الإرهاب وتفشّيه في العالم».
لا تفصل دوائرُ الفاتيكان الأزمة السياسية وخطورتها عن الأمنية، حيث تعتبر أنّ الشغور السياسي كاد أن يقضي على الحضور المسيحي في الشرق، بينما الحرب وتمدّد «داعش» وأخواتها كان سيشعل النار في آخر المعاقل المسيحية في الشرق وأصلبها، رغم علمها أنّ وضعَ مسيحيّي لبنان لا يشبه أبداً وضعَ مسيحيّي سوريا والعراق، لأنّ المسيحيين اللبنانيين تربّوا على المقاومة ولديهم الإمكانات الجغرافية والديموغرافية للصمود إذا ما إقترب الخطر منهم.
كلّ تلك العوامل ما زالت تدور في خاطر الكرسي الرسولي، لكنه يتعامل مع المرحلة المقبلة بترقّب وأمل لأنّ الإيجابيات طغت أخيراً على السلبيات.
وفي هذا الإطار، علمت «الجمهورية» أنّ الفاتيكان يبني حساباته في المرحلة المقبلة وتطلعاته وفق عدد من النقاط ترتكز على الآتي:
أولاً: دعم رئيس الجمهورية المنتخب على اعتباره رأس الدولة اللبنانية والرئيس المسيحي الوحيد في الشرق، وممثل الشرعية، إذ إنّ المسيحيين لا يمكنهم أن يعيشوا ويستمروا خارج إطار الدولة وفي مجتمعات تتنازعها الصراعات وتخضع لشريعة الغاب، فإذا ضعفت الدولة هم ضعفوا أيضاً.
ثانياً: تطبيق اتفاق «الطائف» نصّاً وروحاً، وهذا الأمر يعني كثيراً للفاتيكان الذي يرى لبنان تجربة فريدة للتعايش الإسلامي- المسيحي المتكافئ والشراكة الكاملة الحقيقية، فـ«الطائف» نصّ على المناصفة وأيّ خروج عنه برأي الفاتيكان يعني الدخول في صيغ مجهولة وسيطرة فئة على أخرى. وتبدي دوائر الفاتيكان إرتياحها لخطاب القسم وآداء عون الذي يؤكّد تطبيقه الدستور بكلّ حذافيره.
ثالثاً: ممارسة رئيس الجمهورية لصلاحياته وتعزيزها ليكون قادراً على القيام بمهامه، وهذه النقطة يعتبرها الكرسي الرسولي أساسية لأسباب عدة أبرزها أنّ الرئيس المسيحي يجب أن يكون حكماً بين اللبنانيين عموماً وبين السنّة والشيعة خصوصاً، وعدم السماح للحرب المذهبية أن تنتقل اليه، وأيضاً تعزيز حضور المسيحيين في الحكم لأنه يغني الدولة وأيّ تراجع في هذا الدور يُعتبر نكسة للمسيحية المشرقية.
رابعاً: يطلب الفاتيكان من الموارنة احتضان جميع مسيحيّي الشرق وخصوصاً المهجرين، وأن يشكل لبنان نقطة حماية لهم لعودتهم الى ديارهم ريثما تنتهي الحرب لا أن يشكل نقطة ترانزيت نحو هجرتهم الدائمة الى الغرب، وهذا الأمر عبّر عنه كاتشيا خلال الدورة الخمسين للأساقفة والبطاركة الكاثوليك التي عُقدت في بكركي أخيراً.
خامساً: يبارك الكرسي الرسولي أيَّ اتفاق يحصل بين اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، وهذا الأمر يُترجم من خلال دعم البطريرك الراعي لرئيس الجمهورية واتفاق «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، ويدعو الى تعميمه ليشمل الجميع لأنّ عودة الاقتتال المسيحي ممنوع.
وفي ما خصّ زيارة عون إلى الفاتيكان ولقاءه البابا فرنسيس بعد رسالة التهنئة، فقدّ لخّصها الراعي قبل سفره بأنّ الفاتيكان ينتظر تعيين سفير للبنان لأنّه لا يستقبل أيّ رئيس جمهورية من دون وجود سفير، وبالتالي فإنّ عون سيزور الفاتيكان عاجلاً أو آجلاً ويلتقي البابا الذي يكنّ كلّ محبة وتقدير للبنان.