كتب علي الحسيني في صحيفة “المستقبل”
“نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحدين، إلى أبد الآبدين، دفاعاً عن لبنان العظيم”. هو قَسَم للشهيد الراحل النائب جبران تويني، هو قَسَم ما زالت تُسمع أصداؤه وتتردد على ألسنة اللبنانيين ويحتل المساحة الاكبر في الاعلام اللبناني وفي ضمير الأحرار. قَسَم كانت له تداعيات في نفوس الاجرام التي انهارت بسرعة البرق بفعل كلمات القسم وإرتداداته الايجابية في داخل التواقين الى الحرية والعيش بكرامة. اليوم وبعد احد عشر عاماً على الاستشهاد، ما زال اللبنانيون يستذكرون كلمات القَسَم ووقعه ويعيشون لحظات الانتصار على جلاّد أُخرج مدحوراً، مذلولاً، قبل أن يعود على هيئة الإجرام نفسها التي كان عليها، مُبتكراً لنفسه طُرقاً متعددة من الإجرام.
بعد استشهاد صاحب الكلمة الحرة والموقف الجريء جبران تويني بعامين، وفي التاريخ نفسه، دوى انفجار عبوة ناسفة أودت بحياة اللواء فرانسوا الحاج قائد العمليات في الجيش اللبناني وأحد أبرز وجوه التصدي للإرهاب في معارك مخيم “نهر البارد”. في ذلك التاريخ، اجتمعت ظروف الاغتيالين، فجاءت مُتشابهة من حيث الشكل والمضمون. عبوة ناسفة مركونة إلى جانب الطريق، المُستهدف أيضاً رجل قاوم الإرهاب بعقله وسلاحه وحصره في بقعة ضيّقة تُشبه إجرام المُعتدي، لكن النيّة المُبيتة كانت له بالمرصاد، فكان ان انضم الى كوكبة من الشهداء الذين رسموا بدمائهم، خريطة لبنان الحرّ السيّد المُستقّل.
الثاني عشر من كانون الأوّل العام 2005، لم يكن يوماً عاديّاً في تاريخ لبنان ولا في حياة اللبنانيين، ففي ذلك اليوم كان لبنان على موعد للمرة الخامسة مع الاغتيال، بعد الرئيس رفيق الحريري والوزير باسل فليحان والصحافي سمير قصير و”أب المقاومة اللبنانية الوطنية” جورج حاوي من دون إغفال محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، ليقع الدور هذه المرّة على النائب والصحافي المتميّز جبران تويني بواسطة سيارة مفخخة جرى تفجيرها من بُعد لحظة مرور سيارته في منطقة “المكلّس”، لتضع حداً لحياة صاحب قلم عُرف بجرأته وأحد أبرز الوجوه المعارضة للوجود العسكري والأمني السوري في لبنان والهيمنة عليه.
جبران الحلم، كان يُشبه لبنان بعنفوانه. كان حُرّاً من الداخل رغم السجن الكبير الذي كان يلف وطنه. حلم مثل كل اللبنانيين بوجود دولة لبنانية سيادية لها حدود يحميها جيش وقوى أمنية. كان يقترب من هذا الحلم احياناً ويبتعد عنه أحياناً اخرى، لأسباب كانت تتعلق بالواقع المُخيف الذي كان يُهيمن على البلد ويأسره. لكن إيمان جبران وإصراره على العبور إلى الدولة مع رفاقه في مهنة الكلمة الحرة والنضال السياسي وإيمانه باللبناني الآخر حتّى لو شذّ عن القاعدة الوطنية في لحظة ضعف، جعله يؤكد ذات يوم “أن هذا البلد لا يحكم ولا يعيش الا بتوافق أبنائه، وإن حصل أن خرج أحدهم عن مشورة البقية فعلينا ان نعيده الى حظيرة الوطن التي تجمعنا من دون تفرقة”. نعم هذا هو جبران وهذا هو حلمه وهذا عهده وقسمه، واللبنانيون هم الذين حقّقوا حلمه وحلم الاجيال ولو جزئيّاً من خلال التوافق وتوحيد الإرادة.
جبران تويني الحر في كلمته وحياته، حمل قضية وطنه مثلما يمتشق الثوّار بنادقهم. سأل عن كل المعتقلين في السجون السورية والإسرائيلية ولم يُميّز بين اسم وآخر. حمل قضايا شعبه وترجمها حبرا على ورق صحيفته، فكان مفعولها أمضى من مفعول السلاح. ولأنه من هذه الطينة ومن هذه الهامة التي تُشبه عطر قلمه، فقد تناول الصحافي جان بيار بيران من “ليبراسيون” قضية جبران الشهيد والإنسان، فقال يومها: “ في لبنان لم تُذكر أسماء من عُذّب أو اعتقل أو قُتل أثناء الاحتلال السوري واثناء كل الحروب التي مرت”، متوجهاً الى اللبنانيين بالقول: “إذا لم تعترفوا بما حصل ولم تتذكروا فلن يكون لديكم ذاكرة وسيعيد التاريخ نفسه”. ومن المعروف أن جُبران كان واجه قبل اغتياله، تهديدات كثيرة لكنه واجهها بقليل من المُبالاة وكثير من الإيمان. ونقل عنه قوله انه “ما ان يتخذ المرء القرار بأن يُصبح صحافياً في هذه المنطقة، عليه أن يدرك أن ذلك قد يؤدي الى مقتله او اغتياله”، لكنه أعلن صراحة وفي اكثر من مناسبة بحسب المقربين منه، أن “السوريين يريدون قتلي”.
يوم استشهاد جبران كانت لوالده الراحل الصحافي الكبير غسان تويني، كلمات مؤثرة قال في جزء منها “ادعو اليوم لا إلى انتقام ولا إلى حقد، بل إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد والكلام الخلافي، وأن ننادي بصوت واحد ذاك القسم في ساحة الشهداء يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها”. أمّا في وقائع شهادته، فان دماء جُبران لم تذهب هدراً ولا سدى، فقد كان تاريخ استشهاده، عنواناً ليوم شهدت فيه المحكمة الدولية ولادتها نظريّاً ومع حلول ذكراه الخامسة، كان موعد صدور القرار الظني الخاص والمتعلق بـ”جريمة العصر”، جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فكان أن طُبع لبنان في صفحات تاريخ الثورات والتغيير، الثورة على الظلم والقتل والاستبداد، وتغيير لطالما انتظر الشعب اللبناني أن يُصبح حقيقة ملموسة يعيشها في حياته اليومية، فكان أن ترجمت الثورة والتغيير بعبارة واحدة هي “الحريّة” التي انطلقت من ساحة الحريّة.