كتب بول شاوول في صحيفة “المستقبل”:
أن يبني “حزب الله” دويلته الكانتونية الانعزالية عن الدولة والبلد، ويرسم حدودها الجغرافية “المقدسة” ويفرض على سكانها (يسميهم بيئته: أي ملكيته بدمهم ومصيرهم) أنماطاً اجتماعية تقتلعهم من جذورهم، ومحرمات “منقولة” عن إيران، فهذا فادح. وكأن يمنعَ تقاليد الفرح في الأعراس (وكأنها مآتم وحِداد) والغناء، فهذا رهيب.
اما ان يُوسّع “مملكته” بدساتيرها القرونِ الوسطية التي تذكرنا بمحاكم التفتيش، على الجامعة اللبنانية الوطنية فهذا لا يقل فظاعة. كأنما عملية داعشية مستنسخة، لهذا الصرح الحامل تاريخاً ناصعاً من النضالات الديموقراطية والنقابية والثقافية والحداثية والابداعية.
وما إن عدتُ من تونس الرائعة المكللة بربيعها الديموقراطي حيث تملأ الشوارع يومياً حفلات الرقص والهيصات والفرح والتظاهرات المطلبية السلمية، حتى صفعنا خبر لا يصدق لولا وجود هذا
الحزب الإيراني المزروع كشوكة مسمومة في خاصرة لبنان: قرر فرع الاتحاد في الجامعة اللبنانية السماح بالاحتفال بذكرى الطالب الراحل محمد حمادة، ببث أغانٍ لفيروز (لأن الراحل كان من عشاق صوتها)، لكن “التعبئة التربوية” الميليشيوية التابعة للحزب (كسرايا باللباس المدني) منعت الغناء… ممنوع الغناء ولو كانت فيروز، إذاً منع هؤلاء ربما بتكليف شرعي” صوت فيروز من الجامعة اللبنانية. وكأنه “عورة” أو فيروس جاعلين من ذلك الصرح الكبير امتداداً للدويلة. (هذا ما حصل في كثير من الحالات في الضاحية والجنوب) الخاضعة للقوانين والدساتير المقتبسة من “امبراطورية” ولاية الفقيه.
وما الفارق، هنا، بين “داعش” (صنيعة النظام السوري وإيران واسرائيل)، وبين هؤلاء. فداعش فرض “آياته” على السكان الذين غزاهم، وسبى النساء وباعهن في سوق الرقيق، أو قام أفراده باغتصابهن، لأنهن مجرد نساء وكأنه يطبق الشريعة الالهية بحقهن! وما الفارق كذلك بين “داعش” وبينهم، الذي حطم ما سماه الأنصاب من تماثيل، ومساجد وكنائس؟ ما الفارق إذاً بين تنظيم ارهابي يمنع الموسيقى والغناء لأنها من “رجس الشيطان” (اليهود أيضاً حرموا الموسيقى وحطموا الأوثان!”). وحزب “لبناني” جهادي يطبق “الشريعة” متجاوزاً “الدستور” اللبناني ويحرم الغناء والفنون والرقص؟ لا شيء سوى ان “داعش” هو الضمير المعلن لضمير الحزب المستتر. وإذا عرفنا ان الحزب “يتشدّق” (ضلالاً) بضرورة احترام الدستور والقوانين وهو يشارك بنواب في البرلمان والحكومات واللجان، نفهم مدى عدم جديته باحترام الدولة وشرائعها: الشريعة المستوردة تحل محل الشرعية. فكأنه يقول “لكم دولتكم ولي امبراطوريتي” بهذا المنطق يمارس الحزب سلطته “المطلقة” على “بيئته” وينتهك عاداتها وجذورها وتقاليدها. وبالمنطق ذاته، يستبيح الجامعة الوطنية وحرمها وبنيتها. فاذا كانت الجغرافية (الحدث) مجاورة (لكانتونه) فلمَ لا يضمها اليه ليفصلها في الوقت ذاته عن قوانينها وقواعدها ويجعلها مرآة لشريعته الشعبوية الفوضوية.
لكن نسي الحزب ان البناء الجامعي الموحد (الذي صادره بسراياه ورعاعه) كان من أولويات مطالب الحركة الطالبية في السبعينات وكذلك الكليات التطبيقية… التي ناضلت بشراسة من أجل تحقيقها بتظاهرات واعتصامات إلى ان حقق الرئيس الشهيد رفيق الحريري، هذا المطلب بإنشاء صرح مركزي موحد في منطقة الحدث ليكون مساحة حية للوحدة الوطنية والتفاعل الاجتماعي والمناخات الأكاديمية العلمية المطلوبة، وحافزاً للانفتاح والابداع وحيزاً كبيراً للانتماء الوطني، ذلك لأن الحريري عرف جيداً معاني وجود جامعة لبنانية – وطنية، انها تجمع (ولا تفرق) كل طلاب العلم، في بوتقة تحرسها الحرية ويحميها التعاطي التربوي بين الطلاب ، فهي جامعة، أي مكان لمحو الحدود السياسية والأيديولوجية والمذهبية بين طلابها والأساتذة؛ وهي لبنانية فلا تفرق بين مواطن وآخر وتعكس مختلف أشكال التعددية، واساليبها، سواء في المعالجات الأكاديمية أو الوسائل التعليمية، تحت سقف الانتماء إلى لبنان، والتطور والتقدم والقيم الابداعية والحضارية. وعرف الحريري ما معنى “وطنية”: أي تكوين عقول ونفوس تشكل بشبابها مستقبل الوطن، بمختلف الميادين والسُبُل….
لكن الحزب بأيديولوجيته الصماء، العمياء، فَهِمَ العكس، تماماً كما فهم معنى الجمهورية والنظام والسلطة والقانون والمؤسسات. وكما انتهك بيروت والجبل بغزوته الشارونية الهمجية وأذل الناس وأحرق تلفزيون “المستقبل” (علق على جدرانه صور بشار الأسد!) وكذلك جريدة “المستقبل” ضارباً بعرض الحائط كل ما يمت إلى المؤسسات الشرعية بصلة، وكل ما يتصل بكرامة اللبنانيين بهدف تعميق الانقسام في البلد، ها هو وبالذهنية ذاتها، يغزو الجامعة اللبنانية باعتبارها مؤسسة رسمية، بلا احترام لقيمها ولا تعدد انتماء طلابها ولا قدسية حرمها بهدف شرعنة تفتيتها وانتزاعها من جذورها الوطنية واللبنانية والتعليمية. فهو لا يريدها لا جامعة ولا معهداً ولا كلية، مؤسسة على الانفتاح والتقدم والابداع (وهي من أصول الانتماء وفروعه) بل يريدها مركزاً “حزبياً” من مراكزه، وكتلة مغلقة يتلاعب بها ليفصلها عن دورها وعن أهدافها وعن لبنان بالذات. ويكفي أن يسمي الحزب احدى “بدائعه” “التعبئة التربوية” لنتأكد من ان فهمه لجامعته هو فهم ميليشيوي – عسكري – فئوي، لكن بم هم معَبّأون: بالفراغ والعنف والتعصب تماماً كما رباهم حزبهم في معسكراته وجحُوره. تعبئة ماذا في الجامعة اللبنانية: مغسولو الأدمغة يعبئون فراغهم باللاشيء. أجاؤوا إلى الجامعة اللبنانية ليتعملوا، ويتثقفوا ليخدموا مجتمعهم أم ليعطلوا التعلم والتعليم، ويتفوقوا في ثقافة التخريب والكراهية؟ اجاؤوا حقاً لنيل شهادات في الاختصاصات كالأدب والطب والهندسة… والعلوم ام لنيل “شهادة انتماء حزبي” . أجاؤوا يتعلمون لخدمة وطنهم أم لتدميره، لتوسيع آفاقهم أم لتضييقها؟ انهم بكل بساطة “عسكر” الحزب أي مشروع حروب فتنوية في لبنان وابعد منه، او كائنات ترهيبية ليس لها سوى الغاء ما لا يتفق معها حتى التخريب والمصادرة والمنع… ولم لا القتل. ونظن ان منع أغاني فيروز في “الحديقة الخلفية” للحزب (اي الجامعة) كأنه اعلان ما يمارسه الحزب أو سيمارسه. أترى هل صحيح ان هذا التنظيم الإيراني من الممكن أن يكون حذف من البرامج بعض اساطين الفلسفة العربية كابن رشد وابن خلدون والفارابي وصولاً إلى ابن سينا، لكي لا ننسى رواد الفكر العربي والابداع في القرن العشرين كطه حسين ونجيب محفوظ وقاسم أمين وأمين الريحاني والافغاني ومحمد عبده وصولاً إلى سارتر وكامو وماركس وزكي نجيب محفوظ… من دون أن يغيب عن بالنا شعراء عرب قدامى كأبي نواس، والمتنبي، وحديثين كالياس أبو شبكة، وجبران خليل جبران، وأحمد فارس الشدياق، وميخائيل نعيمة (بمرداده) وحتى سعيد عقل! ولمَ لا منع تدريس مادة الموسيقى (أو الرقص) والفن، ساعياً إلى محو هذا الإرث اللبناني العربي العالمي… إذاً قد يعمد هذا الحزب إلى تصحير الجامعة الوطنية وعزلها، وخنقها، وتشويهها، والاستيلاء عليها كلها!
إن هذه الممارسات التي لا نرى منها سوى رأس جبل الجليد، تسعى بخطط مشغولة ودائبة إلى تدمير كل ما يميز لبنان، بل وكل ما صنع من لبنان “منارة الشرق” ولؤلؤته، بل كل ما جعله ملجأ للهاربين من طغيان الأنظمة، كحافظ الأسد ووليده، وصدام حسين، ومعمر القذافي، وعلي صالح… إنها حلقات متتالية، تتجاوز لبنان إلى أرومته العربية، وإرثه العربي، من الجاهلية حتى اليوم. وهذه بالذات ميزة الحزب عن سواه من الأحزاب الميليشيوية السابقة، التي وإن فرضت بالسلاح الفئوي جغرافيات وتقسيمات وإدارات محلية، إلا أنها لم تمس (عموماً) القيم الإبداعية والثقافية والتاريخية. فلا “حركة أمل” خطر ببالها أن تمنع فيروز (لأن هذه الحركة في النهاية لبنانية – عربية، –حزب الله فارسي)، ولا الوصاية السورية، والفلسطينية، ولا الليبية، ولا العراقية أقدمت على مثل هذه الخطوة. وحدها إسرائيل (قبل الحزب) هاجمت فيروز بشراسة ودناءة، بعد أن غنّت القدس، و”راجعون”، و”الآن الآن وليس غداً”…
لكن نظن أن عند الحزب أسباباً أخرى عديدة تفسّر مواقفه. فهو يعرف مدى تأثير أغانيها في لبنان وبلاد العرب والعالم. ثم هي غنّت لبنان بأجمل ما عندها، والحزب لا “يستهضم” لبنان لا قليلاً ولا كثيراً. وفيروز صوت جامع (كالجامعة اللبنانية)، وإجماعي، وهذا يؤثر على خططه الفتنوية والتقسيمية، وفيرز غنّت “مكة” (حلفاء الحزب الحوثيون قصفوها)، والمدن العربية، وهو يكره كل ما هو عربي، باعتباره اعتنق “الفارسية”. وفيروز غنّت الجمال، والحزب يخافه. وأنشدت الحرية، والحزب عدوّها، ونشرت “الفرح” وهذا يعكّر مزاج الحزب، وصدحت بالحياة، والحزب ملتزم بثقافة الموت والجنازات والتأبينات. ثم إن فيروز “أيقونة” من أيقونات لبنان والعرب والعالم، والحزب يعمل على تشويه أو تدمير كل ما هو “أيقوني” لبناني – عربي لأنه وفيّ “لأيقونات” العنف، والقتل، والدم (سليماني، الجعفري، بوتين، خامنئي، بشار الأسد!). ثم لا ننسى أن في أغاني فيروز نبرة التمرّد، والمقاومة، التي سمعنا في أغانيها، ومسرحياتها وأفلامها. فهي كانت “رمز” مقاومة الاحتلال العثماني في فيلم “سفر برلك”، وهذا يعني أن صوتها قادر على “تعبئة” (بالإذن من فرق الحزب اللاتربوية) النفوس ضد كل احتلال أو وصاية.
فهذا الصوت، هو بجماله وعنفه وحنانه وعروبته ولبنانيته وعالميته، نقيضه، بل يفضح انعزاليته، وتبعيته.
إذاً فلنعلن على الملأ اكتشافنا خطورة هذا الصوت وما يلحق بنا من ضرر، وعبره نجاهر بعدائنا، عبر “التعبئة التربوية” بالعداء لهذه البدعة المارقة التي تتجسد في الموسيقى والغناء والتلحين، وتالياً لكل من يمارسها خصوصاً في لبنان (تيمناً بإيران)، كوديع الصافي، والرحابنة، وزكي ناصيف، ونصري شمس الدين، وصباح… فهؤلاء غنوا “لبنانهم الوهمي” الذي لم يكن موجوداً على الخريطة قبل حزبنا (القول لمحمد رعد). فكل هذا التراث ليس من تراثنا، ولا من بلدنا (إيران) ولا من أيديولوجيتنا (ولاية الفقيه). فهؤلاء كلهم لا يختلفون عن الفلاسفة والكتّاب والفنانين والشعراء العلمانيين، أو الوطنيين أو المتمسكين بحب هذا البلد الذي جعلوه أسطورة… وهو كذبة!!
ونذّكر حزب الجحور، والأنفاق، والغرف المظلمة، أن الجامعة اللبنانية منذ الستينات وحتى اندلاع حروب الميليشيات المسيحية – الإسلامية بالوكالة، كانت من أهم الجامعات العربية، بل وأكثرها حداثية وحرية. وأتذكر “الجوك بوكس” (آلة الأغاني) في كافتيريا كلية التربية، التي احتوت على أجمل أغاني تلك المرحلة اللبنانية والعربية والأجنبية. لم يكن الجوك – بوكس يهدأ. كان الفن جزءاً من ثقافة الطلاب والأساتذة… ولم يكن آنئذ من يتحفنا بتكليف شرعي يكفّرها، ويحرّمها. وأتذكر أن صرح الجامعة لم تشهد جدرانه وغرفه أي صورة لزعيم سياسي لا من اليسار ولا من اليمين، لأن الحركة الطالبية، في مجموعها، رفضت هذه التقاليد التي تمس بجوهر الجامعة. وأتذكر الندوات والجمعيات العمومية والتظاهرات التي كانت تقررها اللجنة التنفيذية المنتخبة انتخاباً ديموقراطياً… وأتذكر عدم تجرؤ أي سياسي على التدخّل في نتائج امتحانات الدخول أو في الشأن الداخلي احتراماً لاستقلاليتها. كان هناك اتحاد وطني اتفق على إنشائه الطلاب من كل الكليات، وهو الذي كان يقرر، من دون تدخلات خارجية التحركات المطلبية..
كانت الجامعة “منجماً” للعلم والتنوير والإبداع والحداثة، ومثالاً لممارسة حرية الرأي. بل كانت في بعض جوانبها متقدمة على المجتمع الذي طلعت منه… لكن بنينا هذه الجامعة الفريدة بنضالاتنا الطويلة، لترثها أثناء الحروب الميليشيات التي جعلت بعض كلياتها ومختبراتها متاريس، وساحات معارك أدت إلى تدميرها. فقدنا الجامعة اللبنانية الوطنية المدنية التي وُزعت دكاكين مذهبية وطائفية، خاضعة لسلطة “الأحزاب” والمقامات الأمية، والجاهلة، التي هيمنت عليها في كل لبنان.
أما حزب إيران، فقد بزّ الجميع! تفوّق على كل “سيئات” الميليشيات السابقة بجعل هذه الجامعة جزءاً من مشروع إيراني، يحمل في طياته كل ما يمكن أن ينتج الجهل، والعنف، والتعصّب، والمذهبية. جعل الجامعة الموحدة في الحدث امتداداً لثقافة الموت، ومشروعاً لحروب أهلية مذهبية، كأنها جامعة الحزب، لا جامعة لبنان، يُحرّم ما يشاء من برامجها، ويرهب من يشاء من طلابها وأساتذتها!
وما الفضيحة المدوية التي ارتكبها الحزب بتحريم الغناء وفيروز، سوى نزع القناع “الشرعي”، والمذهبي، الذي وضعه طويلاً… وكشفه كله اليوم.
فيا “حزب الله”، هذه الجامعة ليست لا مصحاً لأمراضكم وفصاماتكم، ولا هدفاً لسيطرتكم… ولا بد أن تصحو الحركة الطالبية ذات يوم وتقتلع وجودكم الجهنمي منها. أما فيروز يا حزب سليماني، فهي أكبر منكم، فأنتم ستعبرون كما عبر سواكم، وستبقى فيروز بصوتها المبارك الذي يغمر لبنان والعرب والعالم!
فيروز يا حزب إيران هي لبنان!