كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
في العام 2005، أفرزت الانتخابات النيابية التي جرت في ذلك العام، أكثرية نيابية من مجموعة قوى سياسية انضوت تحت عنوان «14 آذار» في مقابل أقليّة انضوت تحت عنوان «8 آذار» وشكلت حركة «أمل» و«حزب الله» الأساس فيها.كانت هذه الأكثرية، تزيد عن سبعين نائباً، وحظيت بدعم سياسي ومعنوي غير مسبوق من كلّ دول العالم، ووُفِّرت لها كلّ الإمكانات فوصلت معها الى ذروة القوة والمعنويات، ولكن مع ذلك، لم تكتمل معها، بحيث لم تتمكن من أن تثمّر انتصارها النيابي حتى في مجلس النواب وبالشكل الذي كانت تريده وتتمنّاه.
يومها قالت المعادلة الداخلية كلمتها، أمام كلّ هذا الدعم العربي والدولي، فلم تستطع هذه الأكثرية أن تتجاوز تلك المعادلة أو أن تعدّل فيها ولو جزئياً.
والجميع يذكرون كيف أنّ بعض أركانها حاولوا المستحيل لكي يتجنّبوا شربَ كأس نبيه بري، وكيف أنّ تلك المعادلة فرضت نفسها بنتيجة صادمة للواقع الأكثري المستجد، تجلّت أوّلاً في أنّ الأكثرية النيابية وجدت نفسها مضطرة الى الذهاب الى انتخاب بري على رأس المؤسسة التشريعية.
وتجلّت ثانياً في أنّ هذه الأكثرية لم تستطع أن تحكم وحدها بحكومةٍ من لون واحد، بل كانت مضطرّة الى الشراكة في الحكومة، التي تشكّلت آنذاك مع الركنين الأساسيَّين في «8 آذار» أي «أمل» و«حزب الله».
وكذلك معهما ومع حلفائهما في كلّ الحكومات التي تلتها منذ العام 2005 وحتى الآن، والجميع يذكرون «الثلث المعطّل» وما كانت نتائجه في بعض المحطات.
هذه الأيام لا تشبه تلك الأيام، وما كان يُسمى «8 آذار» أو «14 آذار» صار مجرّدَ وجود بالإسم فقط، والدعم العربي والدولي والحضور اليومي للبيت الأبيض حتى في أدق التفاصيل اللبنانية، الذي كان موجوداً آنذاك، لا وجود له حالياً، بل صار كلّ الخارج منصرفاً الى اهتماماته بأولوياته ومنهمكاً بأوجاعه ومشكلاته وبالإرهاب الذي يؤرقه.
في أيام العزّ تلك، غلبت المعادلة الداخلية كلّ الدعم الخارجي الواسع وأعدمت تركيبتها الحساسة فرصة فرض معادلة أكثرية حاكمة مقابل أقلّية محكومة. فكيف الحال في هذه الأيام التي لم يعد فيها للعزّ أو لأيّ من مرادفاته مطرح، وفي ظلّ تطوّرات تلاحقت تداعياتها وارتداداتها على مدى سنوات ما بعد الـ 2005 وقلبت الصورة الداخلية رأساً على عقب؟
أمام هذه الصورة، أيّ كلام عن قانون انتخابي مفصّل على مقاس طرف بعينه، أو لخدمة فئة دون غيرها، أو تقسيمات ودوائر تُحقّق الغلبة لفريق على فريق، أو محاولة الابقاء على قانون الستين أمراً واقعاً وسيفاً مسلطاً على الانتخابات النيابية المقبلة، يصبح أمام المعادلة الداخلية، كلاماً بلا أيّ معنى أو وبلا مفعول بل مجرّدَ صفّ أحرف وتردادها لا أكثر. خصوصاً أنّ هذه المعادلة كما كانت سائدة في زمن الستين وما قبله، هي نفسها ستبقى سائدة بعده.
وبديهي في هذه الحال أن يُدرك الجميع حقيقة أنهم محكومون بهذه المعادلة، معادلة اللارابح واللاخاسر، معادلة التوافق والشراكة التي لا يستطيع أيّ طرف أو فئة أو طائفة أو مذهب مهما بلغت قوته، ومهما استمدّ قوةً ونفوذاً من الداخل أو الخارج، أن يخرج منها أو عليها، والدليل ساطع في التجارب والمحطات السابقة.
من هنا تأتي المطالبة بدفن قانون الستين، ليس من خلفية إزاحته لاستبداله بقانون متخلّف بديل يقلب الأكثرية من موقع الى آخر، بل بقانون يتمتّع بشيء من العصرية يراعي الواقع اللبناني كما هو، ويعكسه كما هو بإتاحة التمثيل الحقيقي لكلّ شرائح المجتمع اللبناني، بلا أيّ تصغير أو تقزيم أو تكبير أو تضخيم.
قانون يُعيد خلط أوراق البلد في الاتجاه السليم ويعيد رسمَ الخريطة الداخلية بحجمها وواقعيّتها وتوازناتها، عبر صياغة الأحجام، كلّ الأحجام، بطريقة تخفّف حالات الانتفاخ ولو عند الجميع، وتوجِد – ولو جزئياً – وجوهاً سياسية جديدة، وتُدخل الى ذهن الناخب اللبناني مفهوماً جديداً يشعر معه أنه شريك مساهم في إعادة بناء الدولة، وإعادة إنتاج السلطة والمؤسسات.
هل هذا ممكن، لا بل هل في الإمكان دفن الستين؟
ثمّة محاولة تجرى حالياً لإيجاد أرضية مشترَكة للانطلاق منها نحو قانون جديد. وتحت عنوان «إن تمكنّا من دفن هذا القانون فعلاً، فلا نكون فقط قد أضأنا عمود النور الوحيد في عتمة السياسة اللبنانية، لا بل نكون قد حقّقنا الإنجاز الأكبر في تاريخ لبنان، الذي نضع من خلاله الأسس للمستقبل وللأجيال المقبلة».
وثمّة لجنة تجول على المستويات السياسية، وتواكبها تمنّياتٌ كثيرة بأن تنجح هذه المحاولة مقدّمة لعاصفة سياسية جدّية تهبّ على قانون الستين. وفي المقابل هناك تشكيك حتى في جدّية هذه المحاولة إذ كان يمكن لها أن تبدأ قبل الآن وربما قبل شهر أو قبل أشهر، وكذلك تشكيك في إمكان بلوغ الغاية المرجوّة والوصول الى قانونٍ انتخابيّ جديد، مبنيّ على التجربة السابقة والتباينات الجوهرية التي حكمت مقاربة الملف الانتخابي طيلة الفترة الماضية. والتي أسقط فيها بعض الأطراف رؤيتهم وتقسيماتهم ودوائرهم التي ترتدّ بالنفع عليهم وحدهم دون سائر الآخرين!
قد لا يكون دفن الستين بالأمر السهل، فمؤيّدوه يدركون أنّ بقاءه لن يستطيع الإخلال بالمعادلة الداخلية أو الإخلال بها حتى ولو أخذت التحالفات أشكالاً مختلفة وأخذت في بعض الدوائر شكل الاجتياحات والمحادل والجرافات، إلّا أنهم قد يبنون حوله التحصينات للنأي به عن أيّ محاولة لإعدامه لأنه:
– متوائم ومتطابق مع مصالح طبقة سياسية معيّنة، وركب لها منظومة منافع سلطوية مادية ومعنوية.
– يشكل بالنسبة الى بعض السياسيين فرصة متاحة لحماية نفسه وتحصين ذاته بل لإعادة إنتاج زعامته بدوائر تمنحه، أو تبقي له، اكثرية (حقيقية أو وهمية أو منتفخة)، يُثبت من خلالها لمَن يعنيهم الأمر في الداخل والخارج بأنه صاحب جدارة ورقم صعب في المعادلة الداخلية.
– يتيح لبعض القوى الدخول في لعبة الاستئثار والتحكم، عبر محاولة إلغاء أو تحجيم مَن يعتبرهم منافسيه داخل طائفته أو مذهبه.
– يجعل بعض القوى على اعتقاد دائم بأنّ قانون الستين يوفر له طموحه بأكثرية تجعل منه ندّاً في مواجهة طرف سياسي في المقلب الآخر.
إلّا أنّ دفن الستين وإن كان صعباً في نظر آخرين، لكنه ليس مستحيلاً:
– لأنه قانون متخلّف لا تربطه صلة قربى من قريب أو بعيد مع صفة التمثيل، ولم يشكل يوماً حالة وطنية.
– لأنه يجعل البعض يراهن عليه كفرصة لتحقيق أكثرية بأيّ ثمن، لتغيير أو تعديل قواعد اللعبة الداخلية، فيبقي هذه الأكثرية في حال جهوزية دائمة لتلقف أيّ تغيير خارجي محتمل، قد يسمح له بأن يتوثب من جديد ويعود الى ارتداء «الوجه الشرس» إذا توافرت الظروف له مرة اخرى. بما قد يعطي لرافضي الستين الحق في أن يفكّروا في أيّ وسيلة لدفنه.
– لأنّ هناك قراراً صارماً لدى مناوئي قانون الستين بدفنه، وباللجوء الى كلّ عناصر الدفن المتاحة للحؤول دون إعادة إنتاج واقع مشوّه بأكثريات أو أقليات وهمية تسخّر لغايات تسلطية ولخطوات بل مغامرات كمثل تلك التي كانت لها آثار خطيرة ومدمرة.
– لأنه ثبُت بما لا يقبل الشك أنّ القول بأنّ الستين هو أحسن الموجود، وأهون الشرور، وأنه هو الصيغة الصالحة لإعادة إنتاج الشراكة، هو كلام خاطئ.
– لأنّ إمكانية الوصول الى قانون انتخابي جديد ممكنة، حتى ولو كان الوقت ضاغطاً.
– لأنّ الستين صار قانوناً ساقطاً، سياسياً ومعنوياً، وحتى لو طرح على التصويت في مجلس النواب حالياً، فسيسقط حتماً بأصوات تكتل «التغيير والإصلاح» و«حزب الله» وحركة «أمل» و»القومي» و«المردة» و«البعث» و«الكتائب» و«القوات».
فهل يمكن أن يصل الأمر الى هذا التصويت في لحظة ما لإعدام الستين نهائياً وفرض الذهاب الى قانون جديد، يلقي بعض التجميل على الخريطة السياسية، التي كانت وستبقى محكومة بمعادلة التوازنات الداخلية السياسية والطائفية والمذهبية؟