كتب ايلي الفرزلي في صحيفة “السفير”:
46 يوماً من عمر العهد الجديد، و “حكومته الإلزامية” الأولى لم تولد بعد.
أطفأ الرئيس سعد الحريري محركاته ولم يُغادر بيروت حتى ساعة متأخرة من ليل أمس. لا وسطاء ولا مشاورات جدية في السر أو العلن. لا بل إن لسان حال زوار “بيت الوسط” أن الرئيس المكلف سعد الحريري قدّم “أقصى ما يمكن تقديمه من تنازلات”، وهو بالتالي “يرفض استدراجه أو ابتزازه إلى حد قبوله بترؤس حكومة لا تشبهه سياسياً بل تشكل انقلاباً على خياراته السياسية على مدى عقد من الزمن”.
في القصر الجمهوري كلام في العموميات، وما تسرّب في الساعات الأخيرة عن لقاء كليمنصو بين الحريري والنائب وليد جنبلاط، أعطى إشارة بانتقال حقيبة وزارة التربية من “التيار الوطني الحر” إلى “اللقاء الديموقراطي”، وتحديداً للنائب مروان حمادة الذي أسرّ الى بعض زملائه النواب في “اللقاء” أنه سيتولى حقيبة التربية، فضلاً عن تولي زميله النائب الأسبق أيمن شقير حقيبة البيئة إلا إذا حصل تعديل جديد، وهو احتمال وارد في ضوء ارتفاع حظوظ حكومة الثلاثين، برغم ما قد تستوجبه من تعديلات وتضحيات للحفاظ على التوازنات والأحجام.. والميثاقية، حسب زوار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
لم يعُد هناك من شك عند الكثير من السياسيين أن تأخير تشكيل الحكومة مرتبط بشكل أو بآخر بقانون الانتخاب. هذا لا يعني، بالضرورة، أن العقبات التي تواجه التشكيل ليست موضوعية أو ربما مفتعلة، لكن لا شك أيضاً في أن البعض يبدو مستفيداً من التأخير، الذي يصب في النهاية في سياق تعزيز فرص بقاء قانون “الستين” على قيد الحياة.
في “لقاء الأربعاء الأخير”، دعا الرئيس نبيه بري إلى تفعيل العمل النيابي لإقرار قانون الانتخاب الجديد، بحيث لا يساهم تأخير تشكيل الحكومة في عرقلة المساعي الانتخابية، على أن تتسلم الحكومة زمام المبادرة فور تشكليها.. وهو أصرّ على اعتماد مصطلح “قانون السكين” للتدليل على المضمون السلبي الذي قد يتسبّب به على صعيد الجسم اللبناني، وخصوصاً الوحدة الوطنية.
وإذا كان “تكتل التغيير والإصلاح” هو المبادر إلى فصل المسارين النيابي والحكومي، بالتنسيق مع رئيس المجلس، إلا أن ذلك لم يساهم عملياً في تعزيز فرص التوصل إلى قانون انتخابي جديد، لأن الجهد النيابي سبق أن جُرّب ولم يساهم إلا في استهلاك الوقت وانتقال الملف من فشل إلى آخر، في ظل غياب القرار السياسي، الذي كرّس التمديد هدفاً وحيداً.. مرتين.
هل تغيّر القرار السياسي بعد الانتخابات الرئاسية ووصول عون؟
حتى الآن يمكن ملاحظة سياقين في التعامل مع قانون الانتخاب، الأول، علني يجاهر في كل مناسبة برجم “الستين”، والثاني، مصلحي غير معلَن، يشير بوضوح إلى أن أغلبية الكتل تؤيد بقاء “الستين”، خصوصاً بعد أن صار هذا القانون في خانة المقبول من الثنائي “القواتي – العوني” بعد تفاهمهما سياسياً على الرئاسة والحكومة والانتخابات وربما التعيينات.
هذا لا يعني أن “الثنائي الماروني” متحمّس لبقاء القانون الحالي، ففي جولة نواب “التكتل” تم التركيز على النسبية كنقطة انطلاق، والأهم أنه تبين أنها الأكثر قبولاً بين الكتل. لا بل بدا كل ما طرح من أفكار من دون قيمة تُذكر أمام النسبية، التي يؤيدها نحو 80 في المئة من الفعاليات السياسية والمدنية.
أكثر المعارضين للنسبية هما “تيار المستقبل” و “الحزب التقدمي الاشتراكي”، انطلاقاً من اعتقادهما أن قانوناً كهذا يمكن أن يهدّد موقعهما في المعادلة النيابية، فلا يتمكّن “المستقبل” من حصد العدد الذي يسمح له بترؤس الكتلة الأكبر في المجلس، ويفقد النائب وليد جنبلاط سلطته المطلقة على الشوف وعاليه، وبالتالي يخسر دوره كزعيم أول للدروز وكزعيم وطني قادر على لعب دور “بيضة القبان”.
منذ أيام قليلة، أعلن الرئيس الحريري خشيته، أمام الوفد العوني الذي زاره، من استفادة التطرف السني من أي قانون نسبي، فيما أبدى جنبلاط حرصه على حماية الخصوصية الدرزية.
في المقابل، “حزب الله” و “أمل” هما من أكثر المؤيدين للنسبية، منذ التسعينيات حتى الآن. أما العونيون فقد قدموا اقتراحاً ينص على النسبية الكاملة مع تقسيم لبنان إلى 15 دائرة. وهؤلاء الثلاثة، إضافة إلى “القومي” و “المردة” كانوا أعضاء في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي أقرّت مشروع قانون انتخابي مبني على النسبية الكاملة على أساس 13 دائرة، علماً أن الحكومة كانت تضم حينها عدداً من المستقلين. لكن الأهم أن الحكومة كانت تضم أيضاً ثلاثة نواب من “اللقاء الديموقراطي”، ما يعني أن جنبلاط، قد لا يمانع في السير بقانون نسبي، إذا تمت مراعاة الخصوصية الدرزية.
يبقى “القوات” و “الكتائب”. صحيح أن الأول ما يزال ملتزماً بقانون مختلط يجمعه مع “الاشتراكي” و “المستقبل”، وصحيح أن الثاني يميل إلى الدوائر الصغرى وفق النظام الأكثري، إلا أنهما، كمكوّنين رئيسيين من مكونات اجتماعات بكركي، التي كان يرعاها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي بين الأقطاب الموارنة، باركا المشروع النسبي الذي كانت حكومة ميقاتي بصدد مناقشته، إذ تردد آنذاك أن اللجنة التي تألفت من ألان عون، سامي الجميل، جورج عدوان والوزيرين السابقين يوسف سعادة وزياد بارود، لمناقشة المشاريع الانتخابية، أيّدت المشروع لكن معدلاً (15 دائرة بدلاً من 13)، الذي احتاج إلى نحو شهرين من النقاش الحكومي قبل إقراره.
هذه الصيغة حصلت عملياً على تأييد كل الأطراف الممثلين في حكومة نجيب ميقاتي أو غير الممثلين فيها. يسري ذلك على جنبلاط الذي يدرك أن النسبية لن تخسّره أكثر مما خسره طوعياً في العام 2009 (مقعد لكل من “الكتائب” و “القوات” و “الحزب الديموقراطي اللبناني”)، وأكثر مما يمكن أن يخسره بعد تحالف “القوات” و “التيار الحر”.
يبقى تيار “المستقبل” من أشدّ المعارضين للنسبية، بالرغم من تأكيده مراراً أنها الصيغة الأمثل للبنان “لولا وجود سلاح حزب الله”. وقد كرّر في البيان الصادر بعد الاجتماع الأخير للكتلة أنه يعتبر أن النظام المختلط هو “الصيغة المرحلية والممكنة نحو تطبيق النسبية الكاملة”.
ثمة من يرى أن “تيار المستقبل”، وفي إشارته المتكررة إلى السلاح، “إنما يهدف إلى إيجاد مبرر لرفضه النسبية التي تؤدي عملياً إلى حرمانه من الحجم المضخم الذي يحصل عليه بقانون الستين. هؤلاء يدعون إلى التعامل مع الحريري كما يتم التعامل مع جنبلاط، بحيث يأخذ القانون بعين الاعتبار خصوصيته، او ما يُسمّى تلطيفاً المطالب الحيوية للطوائف، علماً أن تجربة مشابهة سبق أن حصلت في دائرة بيروت الثانية في انتخابات العام 2009، حيث تم الاتفاق على إبعاد كأس الانتخابات عنها، من خلال توافق “الثنائي الشيعي” و “المستقبل” الذي أفضى إلى توزيع المقاعد مناصفة بينهما، من ضمن المعادلات التي أرساها اتفاق الدوحة آنذاك.
في المحصلة، فإن أكثر من 80 في المئة من عدد النواب مستعدّ للسير بالنسبية، إلا أن العشرين في المئة يملكون حق “الفيتو”، وهم يعززون فرص الإبقاء على “الستين”، بالرغم من كل الصخب الذي يجري مؤخراً. أما “تكتل التغيير”، أكثر المحرجين من بقاء “الستين”، فيكرّر أن المطلوب العمل وليس فقط الأمل في إنجاز قانون جديد. إلا أن المشكلة تبدو في عمل البعض على الإبقاء على “الستين” كأحد أبرز عوامل التوازن السياسي في البلد. هو عمل بدأ في العام 2008، واستمر على وقع الصراعات التي ألهبت المنطقة العربية.. ولا تزال.