كتبت وسام أبو حرفوش في صحيفة “الراي” الكويتية:
بدا “الجنرال الأبيض” المتربّع على قمم لبنان وهضابه وبعد طول انتظار كأنه نكّس ناصعه المترامي، مع “الرياح السود” التي تهبّ من حلب المنكوبة على يد جنرالاتٍ وميليشيات متعدّدي الجنسيات والايديولوجيات والأجندات والأهواء.
ولم يحجب الصقيع الذي يضرب الساحل اللبناني مرارةَ نكبة حلب التي تكاتفت على “إنجازها” أضدادٌ متجانسة وأحلامٌ امبراطورية وتصفيةُ حساباتٍ تاريخية وليّ أذرعٍ دولية وما شابه من فائض عنفٍ في السياسة والمصالح والأخلاق.
ما لم يُخْفِه الزائر الابيض وبرده هو ان لبنان، الذي يفاخر بعضه بأنه شريك في إخضاع حلب، وبعضه الآخر بـ “تأجيل” خضوعه عبر “النأي بالنفس”، مرشَّح وسريع للانضمام الى “قواعد اللعبة” الجديدة واسمها الحرَكي مرحلة ما بعد حلب.
لم تكن مصادفة انه في اللحظة التي أدارت الباصات الخضر محرّكاتها لترحيل المقاتلين والمدنيين من حلب، اضطرّ الرئيس المكلف تشكيل الحكومة في بيروت سعد الحريري الى إطفاء محركاته بعدما نُصبت له الكمائن والأفخاخ التي تجاوزت الطابع التقني لمشكلة تأليف الحكومة.
يوم الأربعاء الماضي كان من المقرَّر ان يتصاعد الدخان الأبيض، حين قصد الرئيس الحريري القصر الجمهوري وفي جعبته تشكيلة حكومية من 24 وزيراً، غير ان “سطراً واحداً” على “العواجل” من رئيس البرلمان نبيه بري “عاجَلَ” الحريري الذي عاد خالي الوفاض وربما الى… النقطة صفر. فالرئيس بري قطع الطريق على حكومة الـ 24 وزيراً حين أوحى بأنه سبق ان أبلغ الى رئيس الجمهورية ميشال عون والى الرئيس الحريري موقفاً حاسماً من الحاجة الى تشكيل حكومة من 30 وزيراً، وهو مطلبُ “حزب الله” الذي يريد حكومة “وحدة وطنية جامعة”. ورغم ان بري و”حزب الله” تعاطيا في بادىء الأمر بدرايةٍ مع المساعي التي استمرّت ستة أسابيع لإنضاج طبخة حكومية على أساس 24 وزيراً، إلا انهما عادا الى قلْب الطاولة في اشتراط الثلاثينية قبل “الخمس دقائق الاخيرة” للموعد المفترض لإعلان الحكومة يوم الاربعاء.
هذا التطور، الذي فرض على الحريري إطفاء محركات التشكيل، جاء ربطاً بالكلام الذي تَردّد كثيراً في بيروت عن ان “ما بعد حلب ليس كما قبله”، في إشارةٍ الى ان موازين قوى جديدة ستحكم اللعبة السياسية وتوازناتها في لبنان.
وبلغت هذه التقديرات حد السؤال عما اذا كان “حزب الله” الذي سهّل عودة الحريري الى رئاسة الحكومة “قبل حلب”، سيتيح له تشكيل الحكومة “بعد حلب”، وتالياً هل يريد الحزب، وفي ضوء الوقائع الجديدة معاودة إقصاء الحريري عن السلطة؟
أحد لا يملك جواباً حاسماً في هذا الشأن، لكن الأكيد ان مخاضاً يدور تحت سقف التسوية التي أتت بالعماد عون رئيساً للجمهورية وبالحريري رئيساً للحكومة، ويرتبط عنوانه في شكلٍ أساسي بالتوازنات داخل الحكومة والبرلمان المقبليْن.
وفي تقدير أوساط مراقبة في بيروت، ان الحريري اختار تقديم تَنازُل لكسْر المأزق الرئاسي يوم ركب “المخاطرة الكبرى” بتأييده انتخاب العماد عون رئيساً، وعبْر تفاهم سياسي معه، تجنباً لأي تنازُل يريده “حزب الله”، وتالياً أُبرمت التسوية وبحكنة واضطر الحزب الى السير بها.
ولم يكن “حزب الله”، في رأي هذه الأوساط، يحتاج الى إسقاط حلب لمعاودة وضع شروطه على الطاولة عبر مُفاوِضه الرئيس بري الذي يتمتع بدهاء سياسي كلاعب مخضرم سرعان ما أطلق العنان للعبة تقليم أظافر العهد الجديد قبل ان يطأ عون القصر الرئاسي.
ولم يكن ما يعرف بـ”حقيبة المردة” التي أرادها بري و”حزب الله” للنائب سليمان فرنجية (الذي كان مرشحاً في وجه عون) سوى عيّنة لسلوكه حيال الرئيس عون، الذي أُرغم في نهاية المطاف على التسليم بـ “الخط الأحمر” المرسوم حول حقيبة فرنجية، رغم ما أشيع عن انه كان يمانع الانصياع لهذا المطلب.
واللعبة نفسها مورست في مواجهة “القوات اللبنانية” بزعامة سمير جعجع الذي تعرّض لحملة قاسية عنوانها “انتفاخ حجم حصته”، فاضطر الى تقديم تنازلات متتالية، عن الحقيبة السيادية ثم عن حقيبة الأشغال، وهو الآن تحت مرمى محاولة شطب حليفه الوزير ميشال فرعون.
اما الحريري، الذي كاد ان ينجو بحكومة الـ 24 وزيراً قبل ان يُنصب له فخ الثلاثينية، فأصبح الآن أمام خياريْن: إما البقاء رئيساً مكلفاً حتى إشعار آخر وإما التسليم بتوازنات تجعل القرار الاستراتيجي في الحكومة في قبضة ما يُعرف بـ “الثلث المعطّل”. ولأجل هذه الغاية، جرى الضغط اولاً في اتجاه تكريس مبدأ الحكومة الثلاثينية “الجامعة”، وثانياً في اتجاه توزير رموز من قوى “8 آذار” الحليفة للنظام السوري وايران بغية التمكن من الإمساك بـ “الثلث المعطل” المضمر، الأمر الذي من شأنه افراغ التسوية بين عون والحريري من اي تأثير. ورغم هذا الانطباع السائد، فان الرئيس بري يقدّم مقاربة مختلفة عبّر عنها في تصريحات صحافية مبرراً سبب رفض الطائفة الشيعية القبول بوزيريْ دولة (بلا حقائب) في حكومة ثلاثينية اذ قال: “من خلال هذا الامر يحاولون عن قصد أو عن غير قصد أعادتنا الى أيام البكوات، وهذا الموضوع نحن لا نمزح فيه”، مشدداً على ان “المشكلة ليست عندنا (…) ولا تستفزوني وإلّا أعلنتها صراحة وقلتُ كل الحقيقة”.
ولم تعد المناورات الكثيفة تقتصر على اقتياد “تسوية عون – الحريري” الى “بيت الطاعة”، بل يجري استخدام قانون الانتخاب كـ “عصا غليظة”، وفي اتجاهين: محاولة جعْل التفاهم عليه ولو بالأحرف الاولى ممراً إلزامياً لتشكيل الحكومة، والعمل على إقامة اصطفاف سياسي عريض خلف اعتماد نظام النسبية الكاملة في القانون العتيد لضمان إضعاف “الحريرية السياسية” ومعها الكتلة التمثيلية للزعيم الدرزي وليد جنبلاط. وهذا المنحى الذي بلغه تشكيل الحكومة ودفَع ملف قانون الانتخاب الى الواجهة، يشي بأن بيروت على موعد مع المزيد من التجاذبات الحادة التي تمعن في استنزاف رصيد العهد الجديد الذي يحلو للبعض القول ان مؤشرات الشهريْن الماضييْن أظهرت وكأن هذا العهد يبدأ من حيث انتهى سلَفه.