كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
قبل عام 1991، كان استيراد الغاز بنوعيه الغاز المنزلي «بوتان» والغاز الصناعي «بروبان» من مسؤولية الدولة اللبنانية. هي وحدها كانت تستورد هذه المادة الحيوية، أما التوزيع فكان يتم عبر شركات خاصة وفق كوتا محددة لكلّ منها.
وفي بداية عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي، صدر مرسوم يمنح شركة خاصة (يملك أسهمها طلال الزين ورولان الهراوي وآخرون) حق استئجار أرض في منطقة الدورة بمبلغ سنوي 1.410 مليون ليرة لمدّة 99 سنة، وصدر مرسوم ثانٍ يمنح شركة استيراد مشتقات نفطية (يملكها سعدي غندور) حقاً مماثلاً في منطقة طرابلس بالقيمة نفسها. يومها، كان الزين (ولا يزال) هو المورّد الأكبر للغاز عبر البحر الأبيض المتوسط من خلال شركته “نفتومار” التي تأسست في بيروت، ثم انتقلت إلى اليونان.
وجاءت شراكة الزين ــ الهراوي، التي نجم عنها إصدار المرسوم المذكور، لتركّز القطاع بين يدي جهة واحدة عملت على إنشاء خزانات غاز تحت الأرض وفوقها على المساحات المستأجرة “مجاناً” من الدولة، ثم أسّست تجمع “شركات محاصة الغاز”. خطّة الزين والهراوي قضت باحتكار استيراد وتوزيع الغاز من خلال احتكار التخزين. التجمّع كان الأداة المناسبة لاستئجار خزانات الغاز المنتشرة على الشاطئ اللبناني، أي تلك التي لديها منفذ بحري يتيح لها استقبال وتفريغ بواخر الغاز المستوردة. واستمرّ هذا الوضع حتى عام 1998 حين تمكّن الزين من الاستحواذ وحده على كل حصة الهراوي وباقي الشركاء، فأبقى على التجمّع كأداة تمنحه الغطاء السياسي والسوقي.
هكذا نشأ كارتيل الغاز في لبنان. هو كارتيل برأس واحد وأذرع عديدة. الرأس، أي نفتومار، كان وليد الوصاية السورية وعهد الهراوي، أمام الأذرع، المؤلفة من: «نوردغاز»، «يونيغاز»، «كالميد غاز»، «صيداكو» و«غاز الشرق»، فقد ولدت كنتيجة للبزنس الناشئ في اقتصاد الحرب الأهلية. استورد هذا الكارتيل الغاز بمعدّل وسطي يبلغ 200 ألف طن سنوياً. الكميات توزّع على 160 شركة تعبئة وفق معايير «السوق الحرّة» وعبرها تصل إلى المستهلك بالسعر الذي تحدّده وزارة الطاقة أسبوعياً. أما معايير التسعير، فتستند إلى جدول تركيب أسعار يحقق للشركات الخمس إيرادات طائلة تفوق 42 مليون دولار سنوياً، أي ما يوازي 1.055 مليار دولار على مدى عقدين ونصف عقد.
القبضة المحكمة
منذ 25 سنة، أحكمت الشركات الخمس قبضتها على التخزين لأهميته الحيوية في مجال الاستيراد، إذ إن تفريغ بواخر الغاز المستورد يتطلب خزانات مفتوحة على منفذ بحري. وهناك نوعان من هذه الخزانات؛ الأول مملوك من الدولة اللبنانية، والثاني من شركات القطاع الخاص:
ــ خزانات الدولة اللبنانية في طرابلس والزهراني تتسع لنحو 3 آلاف طن، وقد استأجرها التجمّع من «منشآت النفط» بمبلغ سنوي يقدّر بنحو 700 ألف دولار، ثم أقفلها لضمان عدم استعمالها من قبل أي شركة أخرى، وضمان عدم وجود خزانات تنافس تلك التي يملكها أو يستأجرها.
ــ خزانات الشركات الخاصة مملوكة بأغلبيتها من الشركات المنضوية في التجمّع، وهناك خزانات مستأجرة ومقفلة على طريقة استئجار خزانات الدولة اللبنانية مثل تلك التي يستأجرها التجمّع من «يونيفرسال غاز» في منطقة عمشيت، أو أنها خزانات مستأجرة وتدار لحساب التجمّع مثل تلك التي يستأجرها التجمّع من شركة ليكويغاز في منطقة نهر الكلب، وهي تتسع لنحو 5 آلاف طن غاز. وبحسب المعطيات السوقية، فإن «نوردغاز» تملك خزاناً يتسع لنحو 4 آلاف طن، ولدى «غاز الشرق» خزانات تتسع لنحو 25 ألف طن في منطقة الدورة، ولدى شركة «صيداكو» خزانات في منطقة الزهراني تتسع لنحو 2500 طن.
«أدوات» رسمية
السيطرة على خزانات الغاز ذات المنفذ البحري هي نصف الطريق. فالكارتيل يسيطر أيضاً على المنافذ البرّية أيضاً. فعلى الرغم من أن الاستيراد البرّي لمادة الغاز بنوعيه، بوتان وبروبان، مسموح بقرار من مجلس الوزراء الرقم 69 الصادر بتاريخ 20/5/2004، إلا أن المديرية العامة للنفط نجحت، حتى الآن في «سدّه» بطرق مختلفة. فهي رفضت منح أي إجازة استيراد برّي للغاز من سوريا أو من تركيا أو من السعودية. وفي الأسابيع الأخيرة، رفضت المديرة العامة للنفط، أورور فغالي، استقبال أي طلب ومنعت تسجيل أي طلب بهذا الخصوص في قلم المديرية. الذريعة الشفهية التي قدّمتها فغالي أنه لا يسمح باستيراد الغاز برّاً، لكن سرعان ما أبرزت الشركات القرار 69 الصادر عن مجلس الوزراء، لكنها لم تقتنع بالأمر. وصل الأمر إلى حدّ أن وزير الطاقة أرتور نظريان طلب استشارة القاضية هدى الحاج المكلفة بالاستشارات القانونية لدى وزارة الطاقة، التي اقترحت عليه «السماح للشركة المستدعية باستيراد مادة غاز النفط المسيل بروبان عن طريق البر، وذلك استناداً إلى قرار مجلس الوزراء…». فغالي ابتدعت طرقاً للامتناع عن التنفيذ، وبدأت تحيل طلبات الشركات إلى وزارة الداخلية والدفاع المدني ومديرية النقل في وزارة الأشغال لاستطلاع رأيهم بحجة السلامة العامة! اللافت أن الشركات التي طلبت إجازة استيراد الغاز تعمل حالياً في مجال نقل الغاز من منطقة إلى أخرى ومن محطة إلى أخرى، أي أن حجة السلامة العامّة ليست ثابتة، وهو ما يجعل موقف فغالي مريباً. تقول مصادر مطلعة إن وزير الطاقة فرض على فغالي استقبال طلبات إجازة الاستيراد، إلا أن المفاجأة كانت بتسجيل عشرات الطلبات في مدة يوم أو اثنين، فمن أين «نبعت» هذه الطلبات؟ لا أحد يملك أي جواب.
النفوذ السياسي
ما هو مصدر نفوذ الشركات المحتكرة؟ ملكية الشركات الخمس وحصصها السوقية تكشف عن هذا الجانب بوضوح:
ــ الحصّة الأكبر تستحوذ عليها شركة صيداكو، إذ تبلغ نحو 100 ألف طن من الغاز سنوياً، أي ما يوازي 40% من الكميات المستوردة إلى لبنان. هذه الشركة مملوكة من النائب وليد جنبلاط، والنائب نعمة طعمة وجورج متى و«غاز لبنان هولدينغ». هذه الأخيرة مملوكة أيضاً من جنبلاط ونعمة ومتى، إلا أن بين مؤسسيها نبيه الصيداني ومحمود الصيداني ونزيه الصيداني الذين يملكون شركة «يونيغاز». وتملك «غاز لبنان»، أيضاً، مجموعة شركات متخصصة بالعمل على الغاز؛ أبرزها “ناتغاز” التي يبرز بين مؤسسيها بيار ميشال فرعون وبيار هنري حلو، إلى جانب جنبلاط وطعمة وغيرهم. أما مالكو «غاز لبنان»، فهم جنبلاط وابنه تيمور وطعمة إلى جانب شركات أجنبية مصدرها «غير محدد» في السجل التجاري وهي: «جستمار أنترناشيونال» (23.88%)، «الوود فيننس انك» (32.99%)، «بندر أوفرسيز انك» (6.99%)، «ارنال فيننس» (36.12%)، وبالتالي تنتهي الملكية في مكان في العالم.
ــ «يونيغاز» مملوكة من محمود الصيداني وغالبية أسهمها مملوكة من شركة يونيغاز غروب ليمتد المسجلة في بريطانيا. وملكية الصيداني لا تقتصر على هذه الشركة في مجال الغاز، بل تمتد إلى شركة «نيوغاز» أيضاً التي تملك 94.6% من أسهمها «مجموعة الصيداني هولدينغ» ويحمل نزيه محمود الصيداني 5% من أسهمها. حصّة «يونيغاز» السوقية تقدّر بنسبة 10% من واردات الغاز.
ــ «غاز الشرق» هي ثاني أكبر الشركات الخمس المحتكرة للغاز في لبنان، إذ تصل حصّتها السوقية إلى 25% من الواردات، وأسهمها مكوّنة من 3 ملايين سهم تتوزّع على «رومسي انترناشيونال» بنسبة 99.99% وعلى رئيس مجلس الإدارة قيصر شحادة رزق الله (سهم واحد) وجورج متى (سهم واحد). «رومسي انترناشيونال» هي شركة أجنبية ويتردد بين مستوردي وتجار الغاز أن ملكيتها تعود إلى طلال الزين نفسه وإلى شركائه متّى ورزق الله.
ــ «نوردغاز» هي الشركة الوحيدة في الشمال، وهي مملوكة من عبد الرزاق حجّة المحسوب على رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة. حصّتها السوقية تصل إلى 10% من مجمل واردات الغاز.
ــ «كالميد غاز» مملوكة من مارون شماس الذي يرأس مجلس إدارة جمعية مستوردي النفط في لبنان، وهو يملك شركة «مدكو» التي تستحوذ على حصّة سوقية واسعة من تجارة النفط في لبنان. هذه الشركة تعمل منذ عقود في مجال تجارة النفط، ولديها نفوذ واسع مع السياسيين. حصّتها السوقية تبلغ 10% من واردات الغاز.
جدول تركيب الأسعار
الكارتيل يحوّل مصدر النفوذ إلى إيرادات هائلة. المتوسط السنوي لأرباح الشركات يبلغ 42.2 مليون دولار، أي ما يوازي 1.055 مليار دولار خلال السنوات الـ 25 السابقة. هذا المكسب مصدره جدول تركيب الأسعار. الجدول، كما يمكن تعريفه، هو مجموع الأكلاف التي تتكبدها الشركات مقابل استيراد وبيع الغاز في لبنان بالسعر الذي تحدّده وزارة الطاقة أسبوعياً. الجدول يشبه جدول تركيب الأسعار الخاص بالبنزين والمازوت، إلا أن بعض عناصره تختلف لأسباب تقنية.
الجدول يتضمن المصاريف والنقل البحري والتوزيع وأرباح الدكان. من كل طن غاز يدخل إلى لبنان، هناك 25 دولاراً كلفة تخزين، و40 دولاراً تعبئة، و64 دولاراً مصاريف، و55 دولاراً نقل بحري، و27 دولاراً جمارك. مجمل هذه الأكلاف يبلغ 211 دولاراً، يتقاضى المستورد معظمها، بالإضافة الى الأرباح المعلنة. الفرق بين جدول تركيب أسعار الغاز وجدول تركيب أسعار البنزين كبير جداً. كلفة التخزين في البنزين تبلغ 2.70 دولار عن كل طن، أما التعبئة التي تحصل عليها الشركات المستوردة فهي مدرجة في جدول البنزين ضمن «عمولة صاحب المحطة» بقيمة 1900 ليرة عن كل ليتر. أما كلفة النقل فتبلغ 20 دولار عن كل طن، والمصاريف المصرفية تبلغ 1.17 دولاراً… مجموع المصاريف التي تتضمن تأمين وغرامة تأخير ورسم مرفأ ومعاملات جمركية ومراقبة ومختبر وإجازة استيراد ومصاريف بنكية وغيرها، لا تزيد على 12 دولاراً في جدول البنزين، مقارنة مع 64 دولاراً في جدول الغاز. نقل البنزين لا يزيد على 83 دولاراً للطن الواحد، مقابل 55 دولاراً في جدول الغاز.
في المجمل، إن جدول تركيب الغاز أغلى بنحو 127 دولاراً من جدول تركيب البنزين. ليس هناك مبرّر واضح لهذا الفرق، وخصوصاً أن المعاملات والأكلاف متشابهة بينهما تقريباً، مع فارق أساسي أن صاحب المحطة يحصل على جعالة بيع البنزين، وأصحاب الشاحنات يحصلون على جعالة نقل البنزين، وشركات التوزيع تحصل على جعالتها أيضاً، أما جعالة معامل تعبئة الغاز فهي تذهب إلى جيوب الشركات الخمس. الـ 127 دولاراً على الطن الواحد تساوي 25.4 مليون دولار سنوياً، وهي تساوي 635 مليون دولار على مدى السنوات الـ 25 الماضية.