كتب ايلي الفرزلي في صحيفة “السفير”:
منذ أكثر من 20 عاماً، بدأت “النسبية” بدخول قاموس المصطلحات السياسية اللبنانية، بوصفها شرطاً أول لقيام الدولة وتصويب الممارسة الانتخابية.
في عام 1995، طرحت “الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات”، مع تأسيسها، “النسبية” كواحدة من عناوين الإصلاح السياسي في لبنان. كما يسجّل لمدير “مركز بيروت للأبحاث والدراسات” عبدو سعد أنه كان أبرز من واجه السلطة بـ “النسبية”، عبر أرقامه وإيمانه بأن الانتخابات بحد ذاتها لا تصنع ديموقراطية إذا لم تكن وسيلة لانتاج طبقة سياسية تحاكي تطلعات الشعب وتحترم القانون والدستور.
حمل المؤمنون بـ “النسبية” لواءها، منطلقين من أن الانتخابات لتكون انتخابات فعلية، عليها أن تتصف بالعدالة والقدرة على تمثيل مختلف شرائح الشعب، لا تمثيل المتواطئين عليه، حماية لتسلطهم في مناطقهم وطوائفهم واستئثارهم بالسلطة، ومنع الأقليات السياسية من التعبير عن نفسها.
1997: “النسبية” ليست لآينشتاين فقط
في عام 1997، طرح الرئيس الياس الهراوي اقتراحاً ينص على اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة (بعد التأهيل المذهبي على أساس القضاء)، فكان هذا الاقتراح الأول الذي يحترم الدستور نظرياً، لإعطائه حق الانتخاب بالتساوي لكل اللبنانيين (حجم الدائرة نفسه والحاصل الانتخابي نفسه)، إلا أنه ضرب، من جهة أخرى، روح الدستور لأنه لم يكن عادلاً، ويؤدي إلى اكتساح صاحب التمثيل الأعلى لكل المقاعد، مقابل تهميش أصوات وحقوق الأقليات السياسية.
وبرغم أن اقتراح الهراوي لم يبصر النور، إلا أنه فتح الباب أمام مصطلح جديد في الحياة السياسية اسمه “النسبية” الذي كان أشبه بالاحجية بالنسبة لكثر من السياسيين الذين لا يعرفون سوى نسبية إسحق نيوتن.
صار المصطلح متداولاً أكثر، لكنه افتقر إلى آلية تطبيقية في الواقع اللبناني، بالرغم من استعانة بعض الأكاديميين، آنذاك، بزملاء لهم في جامعة أوكسفورد، إلا أن الخلاصة كانت: يستحيل تطبيق “النسبية” في بلد فيه كوتا للطوائف.
هنا تحديداً يمكن اعتبار عبدو سعد “أبو النسبية” في لبنان. فقد نجح في إيجاد آلية للانتخاب على أساس النظام النسبي تراعي التقسيم الطائفي لعدد مقاعد البرلمان وتراعي التوزيع المناطقي لأعضاء المجلس، مع التمسك بلبنان دائرة انتخابية واحدة.
أطلع عبدو سعد عدداً من مراكز الأبحاث والصحافيين، على الآلية التي طرحها، فنالت إعجابهم. وقال له حينها رئيس تحرير “السفير” الراحل جوزيف سماحة: إذا كان المشروع لا يخالف الدستور تكون قد قدمت خدمة وطنية كبيرة، وحللت مشكلة أكبر، طالباً من سعد إجراء دراسة يطبق فيها الآلية المقترحة على نتائج انتخابات 1996. وبالفعل، نشرت هذه الدراسة في حزيران 1997 في “السفير”، موضحة الطريقة المثلى لتطبيق النظام النسبي على أساس القيد الطائفي.
مرت الأيام والسنوات وطور سعد الآلية المقترحة أكثر من سبع مرات، فيما صار الناس أكثر اقتناعاً بأن “النسبية” وحدها قادرة على تأمين صحة التمثيل.. كما صار كثر من السياسيين جزءاً من حملة الضغط لإقرار نظامها، من دون أن يتوهم أحد منهم أن المعركة سهلة. حتى الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني الراحل جورج حاوي وافق على مبدأ “النسبية” مع التوزيع الطائفي (مخالفاً المطالبة التاريخية للحزب وأيضا لـ “الحركة الوطنية” في زمن كمال جنبلاط بوضع نظام انتخابي خارج القيد الطائفي)، وذلك انطلاقاً من إيمانه بـ “نظرية المستنقع” (الغوص في المستنقع كوسيلة للخروج منه).
“النسبية مفيدة.. ولكن”
في انتخابات عام 2005، كانت “النسبية” على كل لسان (مؤيداً أو معارضاً)، بعكس عام 2000، الذي مرت انتخاباته من دون ذكر فعلي لها. وبالرغم من أن البلد كان على شفير حرب أهلية في عام 2005، إلا أن ذلك لم يمنع السلطة بجناحيها من التواطؤ لتمرير القانون الأكثري حماية لنفوذها.
أمام هذا الواقع، وبالرغم من الحروب التي تشن وما زالت على “النسبية”، إلا أن أحداً من السلطة لم يتجرأ على القول إنها سيئة أو غير مفيدة للبنان. كل طرف يقاربها حسب تأثيرها على نفوذه وسلطته، قبل أن يرفضها لأنه “لم يحن وقتها بعد” أو لأي سبب يؤدي إلى الغاية نفسها. فيبرئ نفسه من دم قانون انتخاب يتصف بالعدالة واحترام الدستور، ويؤدي إلى بناء دولة، معطياً لنفسه الحق في بث الحياة في هرطقة القانون الأكثري الجمعي غير الموجود في أي بلد في العالم باستثناء البلدان المتخلفة. لكن المفارقة أنه حتى في الدول التي تعتمد النظام الأكثري، فإن آلية الانتخاب تذهب لمصلحة الصوت الواحد على أساس الدائرة الكبرى، بما يعطي الناخبين الحق نفسه في الاختيار من بين كل المرشحين، بخلاف القانون الأكثري في لبنان، حيث يمكن لأبناء منطقة معينة اختيار 10 نواب فيما أبناء منطقة أخرى لا ينتخبون سوى نائبين، أو يمكن للمرشح أن يفوز بـ100 ألف صوت في منطقة وبـ10 آلاف في أخرى.
مختلط.. أكثري الهوى
بعدما هرّبت السلطة في مؤتمر الدوحة قانون عام 1960، تقف اليوم عاجزة عن تخطي “النسبية”. لذلك ابتكرت ما يسمى بالقانون المختلط. للوهلة الأولى يتبين أن هذا القانون هو تراجع من قبل السلطة، أو خطوة أولى على طريق “النسبية”، كما يسوق كثر، وفي مقدمتهم تيار “المستقبل”، لكن التدقيق بالمشروع المطروح يوضح أنه “لا يمتّ إلى النسبية إلا بالتسمية، فيما هو في الواقع لا يختلف، في مفاعيله، عن القانون الأكثري”.
ويوضح عبدو سعد أنه إذا كان هدف “النسبية”، منذ شيوعها في القرن التاسع عشر، هو تمثيل الأقليات، فإن المشروع المطروح لا يمثل إلا الأكثريات. ويجزم أنه لن يأتي، بناء عليه، أي نائب من خارج الاصطفافات السياسية الكبرى.
يبدو سعد واثقاً أنه لو تحالف أعرق ثلاثة أحزاب لبنانية معاً، أي “الشيوعي” و “الكتائب” و “القومي”، فلن يستطيعوا الحصول على نائب واحد بقوتهم الذاتية، حتى لو ترشحوا في الدوائر “النسبية”.
الأرقام تشير إلى أنه من المتوقع تخطي عدد المقترعين المليوني ناخب، ومع افتراض أن 64 نائباً سينتخبون على أساس “النسبية”، فإن معدل الحاصل الانتخابي سيكون نحو 33 ألف ناخب (بين 22 ألفاً في بيروت و45 ألفاً في الجنوب)، فهل يمكن لأي طرف غير الأحزاب الكبرى أن يؤمن هذا الرقم في أي محافظة؟
باختصار، يرى سعد أن كل نظام لا يعتمد “النسبية” الكاملة هو محاولة التفافية من قبل السلطة، وهو بمثابة رسالة إلى اللبنانيين مفادها: عليكم أن تضحوا جميعاً بمستقبلكم وبحلم بناء الدولة من أجل الطبقة السياسية.
لا يعارض أصحاب هذا الرأي القانون المختلط بالمطلق، لكنهم يعارضون المشاريع المطروحة، انطلاقاً من معادلة واضحة مفادها: إما القانون النسبي أو أي قانون يعطي مفاعيله نفسها. وعليه، فإن أي قانون مختلط يجب أن يراعي المبدأ التالي: حيث يوجد نظام نسبي يجب أن يكون لبنان دائرة واحدة، وحيث يوجد نظام أكثري يجب أن يعتمد الصوت الواحد لكل ناخب.
ذلك يبدو صعب المنال. وأهل “النسبية” بدأوا يشعرون بأن الأمل يكاد ينعدم في تحقيق الهدف المنشود، بعدما تحول القانون المختلط إلى المشروع الوحيد المطروح على طاولة النقاش السياسي ـ المصلحي. أما ما يرددونه عن النظام النسبي، فلم يعد خياراً هدفه تحقيق عدالة التمثيل، بل ضرورة لإنقاذ الدولة، انطلاقاً من ان الانقسام العمودي يهدد أصل الكيان لا موقع هذا الطرف أو ذاك في السلطة، فلا يسمع صداه ممن يملك سلطة القرار.