كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
إنْ صَدقت الوعود السياسية والحكومية في الذهاب إلى قانون جديد للانتخابات بتمثيل عادل وصحيح، فثمّة ممرٌّ إلزاميّ لبلوغ هذا القانون يُوجب قبل كلّ شيء عبورَ أربع محطات، كلّ منها أصعب من الثانية.- المحطة الأولى، الاتفاق على شكل القانون؛ أكثري بالكامل؟ نسبي بالكامل وأيّ نسبية تلائم الواقع اللبناني؟ مختلط «نِص بنص»؟ مختلط «ثلثان أكثري بثلث نسبي» أو العكس؟ مختلط «ثلاثة أرباع أكثري بربع نسبي» أو العكس؟ بكوتا نسائية أم بعدمها، وإن تقرَّرت فكم نسبتُها؟
– المحطة الثانية، شكل الدوائر الانتخابية وحجمها؛ دوائر صغرى؟ دوائر وسطى؟ دوائر كبرى؟ دوائر بين الصغرى والوسطى؟ دوائر بين الوسطى والكبرى؟
– المحطة الثالثة، توزيع المقاعد النيابية في كلّ دائرة؛ دائرة بمقاعد من لون طائفي معيّن؟ دائرة بمقاعد من لون سياسي معيّن؟ دائرة بمقاعد من لونين طائفيَّين متساويَين أو يغلب أحدهما على الآخر؟ دائرة بمقاعد من لونين سياسيَّين متساويَين أو يغلب أحدهما على الآخر؟ دائرة بمقاعد طائفية أو سياسية متساوية؟
– المحطة الرابعة وقد تكون الأساس والأكثر صعوبةً، وتكمن في استيلاد قانون جديد يُطمئن الجميع ولا يُشعِر أيّاً من الأطراف السياسية والعائلية بوجود طرف غالب وطرف مغلوب أو مقهور أو محجّم انتخابياً أو مستهدَف بتمثيله أو مهشّم بمصالحه ومكتسباته.
مجرّد النظر إلى هذه المحطات الأربع، يَحضر إلى الذهن اعتقاد بأنّ تجاوزَ أيّ من هذه المحطات يتطلّب عصاً سحرية تفعل فعلها في الأمزجة السياسية المتقلّبة والمتضاربة، وفي الرؤوس الطائفية والمذهبية الباردة والحامية على السواء.
ولأن لا وجود لمِثل هذه العصا على أرض الواقع فلن يكون مستغرباً أبداً إن دار النقاش الانتخابي حول نفسه وأكلّ كلّ الوقت الضيّق المتاح من الآن وحتى موعد إجراء الانتخابات النيابية في الربيع المقبل، ما يَعني نفخَ الروح مجدّداً في قانون الستّين الذي تنظر إليه كلّ القوى السياسية على أنه ميتٌ سريرياً في الوقت الحالي!
على أبواب تلك المحطات تتمركز جملة أسئلة:
أولاً، الرئيس ميشال عون تعهَّد في خطاب القسَم بالوصول الى قانون انتخابي يؤمّن عدالةَ التمثيل قبل موعد الانتخابات، ولم يُشر إلى النسبية، مع أنه كان ينادي بها قبل انتخابه، فهل هو متمسّك بها أم أنه سيوافق مع تيّاره السياسي على قانون أكثري، وما هو موقفه إن بقيَ قانون الستّين سيفاً مصلتاً على الانتخابات وشرّاً لا بدّ منه؟
ثانياً، الرئيس نبيه برّي و»حزب الله» ومعهما حلفاء مِثل «القومي» و»البعث» حسَموا موقفهم مع النسبية الكاملة أو الموسّعة أو الصيغة المختلطة بين الأكثري والنسبي، فهل يمكن أن يقبلوا بالتراجع عن هذا الموقف ويَقبلوا بقانون أكثري مئة في المئة، لا بل هل يمكن أن يقبلوا بإجراء انتخابات على أساس الستّين؟
وعلى هذا السؤال جواب نهائي لرئيس المجلس: ما نريده هو قانون إنتخابي يُخرج البلد من القمقم وبالتالي لن أقبل بقانون أكثري. هذا آخر ما عندي ونقطة على السطر.
ثالثاً، الرئيس نجيب ميقاتي قدَّم مشروعاً يعتمد النسبية ويقسّم لبنان إلى 13 دائرة، فهل يمكن أن يقبل بقانون أكثري؟
رابعاً، النائب سليمان فرنجية يلائمه القانون الأكثري على مستوى القضاء كما هو الوضع حاليّاً مع قانون الستين، ووافقَ أخيراً على مبدأ النسبية، فأيّ نسبية يقبل بها؟
خامساً، حزب الكتائب حسَم موقفَه لجهة اعتبار أنّ القانون القائم على الدائرة الفردية هو الأفضل لتحقيق التمثيل العادل والصحيح، فهل سيَثبت على موقفه أم أنه سيتراجع ويؤيّد القانون الاكثري، وهل يسير بقانون الستين إن كان لا بدّ من ذلك؟
سادساً، «القوات اللبنانية»، ترى في الاقتراح المختلط بينها وبين الحزب التقدمي الاشتراكي وتيار «المستقبل»، الصيغةَ الأمثل، ولكن بما أنّ هذا الاقتراح لا يَلقى القبولَ المطلوب من القوى الأخرى، وهي عبّرت أمام اللجنة التي تحرّكت أخيراً حول القانون الانتخابي، عن عدم حماستها للنسبية، فهل ستغيّر رأيَها، أم أنّها ستبقى متمسّكة بالاقتراح المختلط مع الاشتراكي و»المستقبل» رغم صعوبة مروره، وهل يَعني ذلك هروباً إلى الأمام نحو استمرار بقاء الستّين؟
سابعاً، الرئيس سعد الحريري سجَّل في جلسة الثقة، التزاماً جديداً بإعداد قانون جديد للانتخابات، من دون أن يأتي على ذِكر النسبية، علماً أنّ تياره السياسي دخل في بحثٍ انتخابي مع «حزب الله» وحركة «أمل» من ضمنِه النسبية.
ما يخشاه الحريري هو صيغة لقانون انتخابي يقلّص الأكثريةَ التي وفّرها له قانون الستّين، بالتأكيد أنّ الحريري يَرفض أن يتجرّع سمَّ التقليص، ولذلك إن كان التوجّه نحو قانون جديد، فأيّ صيغة يَقبل بها لتبقيَ على حجمه النيابي على ما هو، وأيّ نسبية يمكن ان يوافق عليها، خصوصاً أنّ أيّ صيغة للنسبية تأخذ منه ولا تعطيه؟
علماً أنه كان حتى الأمس القريب هو ونواب كتلته يتمسّكون بالقانون المختلط المقدم من «المستقبل» و«التقدمي» و«القوات».
ثامناً، النائب وليد جنبلاط، ليس سرّاً أبداً أنّ للزعيم الاشتراكي عدوَّين، الأول هو النسبية والثاني هو شكل الدوائر وتوزيع المقاعد. وقد يكون البحث معه من بعض الأطراف السياسيين، خصوصاً مَن هم أصدقاء له، يتركّز على محاولة البحث عن أيّ قانون نسبي يمكن أن يوافق عليه ويتحمّله؟
والواضح أنّ جنبلاط لا يُخفي معاداته لهذين العدوّين، ولذلك من الطبيعي أن يدخل ساحة المواجهة معهما، فإن استطاع أن يمنع النسبية ويعدمها فلن يترحّم عليها، وإن استطاع أن يحدّ منها فهو لن يتأخّر عن ذلك أبداً، فهل إن تعذّر الأمران سيحاول أن يسيرَ بنسبية الحدّ الأدنى، مترافقةً مع تقسيم دوائر يحدّ من الخسائر، ولا يؤدّي إلى خسائر موجعة ليس في مقدوره أن يتحمّلها؟
والواضح أيضاً أنّ مع بدءِ الحديث عن النسبية، شعرَ جنبلاط بأنّ تلك المواجهة تقترب، ولذلك سارعَ إلى رفعِ «الدوز السياسي»، وتجلّى ذلك في الرسائل التي أرسَلها في شتّى الاتّجاهات، وكلام النائب غازي العريضي الأخير يحمل رسالةً واضحة إلى من يعنيهم الأمر، وينطوي على جهوزية للمواجهة في المعركة المفروضة عليه: «لا تستفزّونا بالقانون الانتخابي».
ولجنبلاط صولاتٌ وجولات اعتراضية على النسبية، فأيّام مشروع الوزير الراحل فؤاد بطرس كان له موقفٌ معبّر «لقد جرّبت أن أفهمها، فلم أستطع ذلك، لقد جرّبت أن أدرسَها وأن أعرفَ ما هي، وراجعتُ مشروع فؤاد بطرس فلم أفهمها. وجدتها صعبة جداً.
ما أعرفه عن النسبية أنّها كانت في ما مضى شعاراً للحركة الوطنية في لبنان ولليسار اللبناني، عندما كانت الحركة الوطنية وكمال جنبلاط يطمحان لتغيير النظام من الداخل سلمياً، لكن الآن لم يعد هناك حركة وطنية ولم يعد هناك يسار، بل هناك بقايا يسار. وكلّ الأحزاب الموجودة هي أحزاب طائفية، فليترك كلّ واحد حسب حجمه».
معارضو موقف جنبلاط يرون أنّ الأوان لتصويب المسار الداخلي عبر قانون انتخابي جديد تكون النسبية جزءاً منه بما يعطي كلَّ طرف بحسب حجمِه التمثيلي من دون نقصان أو زيادة تَجعله متحكّماً بالأكثريات والأقلّيات أو صانعاً للأكثريات أو الأقليات تارةً مع فريق «14 آذار» وتارةً أخرى مع فريق «8 آذار»، وهذا الكلام لا يسري فقط على جنبلاط بل على الجميع بلا استثناء.
إلّا أنّ المنطق الجنبلاطي يردّ على هؤلاء، فيدرج الأوصاف التي يطلقها هؤلاء على جنبلاط كـ»بيضة قبّان» أو «صانع أكثريات» أو «متحكّم بها»، وغيرها، في سياق التحريض عليه: «نحن نعرف قوّتنا، ولكن عندما يتحدّثون عن قانون الانتخابات فعلى الأقلّ يجب أن يكون قانوناً تمثيلياً، يحفَظ كلّ المكوّنات».
وبحسب هذا المنطق، فإنّ النسبية كما هي مطروحة حالياً، «مرفوضة، إذ إنّها تُطرح بخلفية سياسية وليس إصلاحية، والسؤال الذي نضعه برسمِ الجميع: «كيف يمكن أن تستقيم النسبية والطائفية في آنٍ واحد، فإنْ كنتم جادّين، تفضّلوا وخفّضوا سنّ الاقتراع إلى 18 سنة، واحسموا تصويتَ المغتربين، وابحَثوا في تحديد لبنان دائرة انتخابية واحدة، وفي إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس للشيوخ وإعادة النظر في التقسيمات الإدارية، ومن ضمن ذلك اطرَحوا النسبية، ونحن جاهزون للنقاش ومنفتحون على كلّ الاقتراحات والطروحات».
في خلاصة المنطق الجنبلاطي إشارة بالغة الدلالة: «ليس في مقدور أحد تجاوز الحجم السياسي والشعبي لجنبلاط، وإذا كان البعض مأسوراً في اعتقاد أنّ إعداد قانون انتخابي يتمّ بمعزل عن زعيم الاشتراكي، فهذا ليس بالمنطق السليم، نحن نرى أنّ هناك من يريد أن يُحسّنَ شروطه وموقعه في قانون الانتخاب، ولكن لا يُفكرَنّ أحد في أن يحسّن شروطه أو موقعه على حسابنا».
ولكن في موازاة موقف المعارضين والمنطق الجنبلاطي يبرز تأكيدُ جهات معنية بالملف الانتخابي على أن «لا قانون انتخاب إلغائياً أو إقصائياً أو تحجيمياً لأيّ طرف»، قد يقال إنّ النسبية مخسّرة للجميع، وهذا يعني، الجميع متساوون في الخسارة، لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو أنّ الخسارة نسبية وضئيلة جداً، لذلك التوجّه الغالب هو إعداد قانون فيه ربح للبلد أما خسارة الأطراف فيه فمحسوبة ومحدودة.