كتبت فيفيان عقيقي في صحيفة “الأخبار”:
بأسلوب يحاكي “الإعلانات” التجارية، أعلن مصرف الإسكان خفض معدّل فائدة الإقراض لديه من 5% إلى 3%، اعتباراً من 1/1/2017. أي أن الفائدة على القروض السكنية التي يمنحها للمقترضين الجدد باتت أقل بنسبة 40%، وهي نسبة تخفيض معتبرة، ستساهم، من دون شك، في زيادة الطلب على قروضه. الإعلان كان بمثابة خبر سار في مطلع العام الجديد للقادرين على تمويل شراء مساكنهم بواسطة القروض المصرفية… إلا أنه كان ساراً أكثر لتجار البناء والمضاربين العقاريين الذين استفادوا من دعم جديد للمحافظة على أسعارهم وأرباحهم وعدم تعريض المصارف التي يتعاملون معها للمزيد من المشاكل الناتجة من تراجع مبيعاتهم منذ عام 2012 وتسجيل بعضهم خسائر فادحة.
أعلن مصرف الإسكان “بهدف تأمين السكن اللائق لأصحاب الدخل المحدود والمتوسط للبنانيين العاملين في لبنان والخارج، وترسيخ الروابط بين المغتربين والوطن الأم”، خفض معدل فائدة الإقراض من 5 إلى 3% سنوياً، وذلك “للعقود الموقعة اعتباراً من 1/1/2017”. يعدّ هذا الخفض إيجابياً في ظل عدم توفير حق السكن للأسر إلا من خلال تملّك المساكن.
إلا أنه ينحصر بالقروض التي يوفرها مصرف الإسكان من دون المصارف الأخرى، كما ينحصر بالقروض الجديدة، ويستثني تلك القائمة التي يقدّر عددها حالياً بنحو 100 ألف قرض سكني تصل قيمتها الى 11.5 مليار دولار، وتستنزف ميزانيات الأسر بفوائد تتراوح كلفتها ما بين 650 و700 مليون دولار سنوياً، من دون احتساب قيمة أصل هذه القروض الممتدة آجالها حتى 30 سنة.
خطوة استباقية
إذاً، عبّر “مصرف الإسكان” عن رغبته في تسييل العملة المحليّة المتراكمة لديه تجنباً للخسارة، وتالياً لزيادة أرباحه، “مستبقاً المصارف التجاريّة الأخرى”، بحسب رئيس مجلس الإدارة المدير العام للمصرف جوزف ساسين، الذي توقّع أن تلجأ المصارف الأخرى إلى سياسة مماثلة إذا استطاعت تغطية هوامش الربحيّة لديها.
تأتي هذه الخطوة في ظلّ تراجع نشاط البناء والبيوعات منذ عام 2010، وهي بمثابة البديل من السياسات السكنية المطلوبة كبديل من سياسة السكن بالدَّين. يقول ساسين إن “قرار مجلس إدارة المصرف ينبع من خلفيّة إعطاء ذوي الدخل المتوسط فرصة للاستفادة من الفائدة المخفضة، وتقليص التمويل الذاتي المفروض عليهم بنسبة 20% (علماً بأن المبلغ الأقصى الذي يقدّمه لا يزال بحدود 800 مليون ليرة)، وتالياً زيادة طاقة الاقتراض والتماشي مع اعتبارات مصرف لبنان الاقتصاديّة لتحريك العجلة الاقتصاديّة المرتبطة بقطاع البناء الذي يعاني جموداً منذ سنوات وترتبط به صناعات عدّة”.
يعدُّ “مصرف الإسكان” من مصارف التسليف الإسكاني في لبنان التي تستفيد من تسليفات المصرف المركزيّ بفائدة وكلفة مخفضة بنسبة 1%، علماً بأنه أنشئ عام 1977 كشركة مساهمة تملك الحكومة اللبنانيّة 20% من أسهمها، فيما يملك القطاع الخاصّ، ممثلاً بـ 25 مصرفاً تجارياً و10 شركات تأمين، 80% منها. وقد منح بين عامي 1996 و2014 نحو 8600 قرض، ارتفعت قيمتها من 90 مليار ليرة عام 2013 إلى 164 مليار ليرة عام 2016.
ينسجم القرار الجديد مع الهندسة الماليّة التي نفذها مصرف لبنان بين أيار ونهاية العام الماضي، والتي منحت المصارف أرباحاً استثنائية لتحفيزها على مبادلة دولاراتها بليرات مصرف لبنان، ما خلق سيولة إضافية بالليرة لدى المصارف تحتاج الى تصريف للمحافظة على أرباحها. فهل ستسير المصارف الأخرى على خطى مصرف لبنان لتصريف سيولتها بالعملة اللبنانيّة؟
عدنا إلى وضع ما قبل عام 2009
يختلف وضع “مصرف الإسكان” عن وضع المصارف التجاريّة الباقية، فمصادر تمويله محصورة بـ”مصرف لبنان”، وتسليفاته تقرّر وفق مبالغ التمويل التي يحصل عليها. وبحسب مدير قسم البحوث والدراسات الاقتصاديّة في مجموعة “بنك بيبلوس”، نسيب غبريل، استحصل “مصرف الإسكان” على مصادر تمويل جديدة سمحت له بتخفيض الفائدة، في إطار السياسة التحفيزيّة التي أقرّها مصرف لبنان، والتي خصّصت 60% من الرزمة الماليّة لتمويل القروض السكنيّة وتشجيع الطلب على المساكن. ويتابع: “اعتمدت المصارف التجاريّة هذه السياسة منذ عام 2009 عندما سمح المصرف المركزيّ بتسليف الاحتياطي، فخفضنا الفوائد على التسليفات السكنيّة لتوازي فوائد مصرف الإسكان، اليوم عدنا إلى وضع ما قبل عام 2009، ولا توجد أي خطوة مُعلنة للسير على خطاه، إذ بمقارنة القروض الممنوحة من المصارف التجاريّة خلال الفترتين، (أي قبل عام 2009 وما بعده)، لم تتبدّل نتائج الأعمال لوجود سقف محدّد للتسليف لدى “مصرف الإسكان”، قد يسمح له بزيادة عدد الطلبات نتيجة التخفيض الحاصل، لكن دون أن يتمكّن من تغطيتها كلّها”.
لكن كيف ستشغّل المصارف سيولتها بالعملة اللبنانيّة؟ يردّ غبريل: “بحسب السياسة التي أقرّها مصرف لبنان، ستقسم السيولة إلى ودائع لديه، وتسليفات بفائدة 5% للدولة اللبنانيّة، وتسليفات للقطاع الخاصّ”.
تجّار البناء: إنها ساعة الفرج
لا شكّ في أن تخفيض الفائدة سيحرّك الطلب على الشقق الشاغرة المكدّسة، لكنه، بحسب غبريل، لن يولّد ارتفاعاً على الطلب مماثلاً لما شهدناه بين عامي 2007 و2010. إلا أن رئيس جمعيّة تجّار البناء إيلي صوما يعوّل على الخطوة “للنهوض بالقطاع مجدّداً وتشجيع عمليّة الشراء”.
قبل عام 2012، كان قطاع البناء ينتج نحو 25 ألف شقّة سكنيّة سنوياً، قبل أن ينخفض إلى نحو 16 ألف شقة بين عامي 2012 و2016 بسبب تراجع الطلب الخارجي الخليجي، ولكون أغلب المساحات المبنية كبيرة ولا سوق محليّة لها، مع العلم بأن 9 آلاف من أصل 16 ألف شقّة تباع اليوم من خلال المؤسّسة العامّة للإسكان ومصرف الإسكان، والقروض السكنيّة، وألف شقة تشترى نقداً من الميسورين، وألف أخرى تباع للمغتربين (كانت نحو 4 آلاف شقة قبل عام 2012). فيما تتكدّس نحو 5 آلاف شقّة، بما يبقي الوضع مستقراً.
يشير صوما إلى أن “السوق تحرّك اليوم، وهناك فورة بناء مستجدّة للاستفادة من التراخيص الممنوحة سابقاً، سترفع عدد الشقق إلى 25 ألف وحدة سنويّة مجدّداً، يُضاف إليهما نمو الاستثمارات الخليجيّة السكنيّة وخصوصاً السعوديّة والقطريّة، وارتفاع استثمارات المغتربين من كندا وأوستراليا والولايات المتحدة، والتي ستسهم في تصريف الوحدات السكنية ذات المساحات الكبيرة (1200 وحدة في بيروت وحدها)، وتصريف الإنتاج الجديد، على أن تبقى الأسعار مستقرّة حتى سنة ونصف سنة على أبعد تقدير”.
قرار طبقي
من حيث المبدأ، يعدُّ تخفيض كلفة الاقتراض في القطاع المصرفي أمراً إيجابياً، طالما أنها الوسيلة الوحيدة للحصول على مسكن، في ظلّ غياب المساكن الشعبيّة، وبرامج البناء الاقتصادي، والقضاء على سوق الإيجارات… ولكن تخفيض الفائدة لا يعني ذوي الدخل المحدود والفئات الفقيرة الذين لا يتمتعون بأجور كافية لتلبية شروط الإقراض.
يهدف تخفيض معدّل الفائدة على الإقراض إلى تشجيع الفئات المتوسطة على شراء شقق جديدة، وتشجيع البيع العقاري، والحدّ من تأخّر المقترضين العقاريين عن تسديد ديونهم للمصارف، وخلق فرص للاستثمار والتوظيف بالليرة اللبنانيّة، وهو قرار إيجابي، بحسب الخبير الاقتصادي والمتخصّص في السياسة النقديّة الدكتور شربل قرداحي، “كونه يساهم بتصحيح جزء من المفاعيل السلبيّة لعمليات Swap الماليّة التي قام بها مصرف لبنان، عبر امتصاص قسم من السيولة بهدف عدم توجيهها للمضاربة على العملة الوطنيّة، علماً بأن مُجمل القروض الى القطاع العقاري (مُطورون عقاريون، ومستثمرون في شراء العقارات، ومُقاولون ومتعهدون، ومشترو شقق) تجاوز الـ 50% من مجمل القروض والتسليفات للقطاع الخاص، أي ما فوق الـ 30 مليار دولار (من أصل محفظة تسليفات بحدود الـ 60 مليار دولار)”. في المقابل، لا يرى قرداحي “أي خطر دراماتيكي على القطاع العقاري أدّى إلى اتخاذ قرار مماثل، رغم تراجع التدفقات النقديّة منذ بدء الحرب السوريّة والانكماش العضوي بسبب العرض الفائض وابتعاد الأسعار عن الأساسيات الاقتصاديّة من عرض وطلب”، مشيراً إلى أنه “يخدم المواطن الذي سيستفيد من فائدة أقل بالليرة اللبنانيّة، والمصارف اللبنانيّة عبر توسيع قاعدة عملائها واستعمال الفائض بالليرة لديها في عمليات مُربحة كونها جزءاً موازياً يُحسم من الودائع الإلزاميّة لدى مصرف لبنان، إضافة إلى استفادة تجار البناء عبر ارتفاع الطلب على الشقق”.
لكن تبقى هذه الخطوة موضع نقد ولو أنها خفضت كلفة الاقتراض، بحسب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله، فهي أتت نتيجة “الدعم غير المباشر من مصرف لبنان، الذي أعطى المصارف التجاريّة قروضاً تمويليّة وأعفاها من 80% من الاحتياطي الإلزامي، دون أن تتعاطى مع الحاجات الجوهريّة للسكن، عبر إدخال شرائح جديدة من المستفيدين من برامج الإقراض، وخصوصاً ذوي الدخل المحدود، كون شروط الحصول على قرض لم تتغيّر بما ينسجم مع تغييرات التكاليف والأسعار التي ارتفعت بعد عام 2006، وتالياً بقيت موجّهة لذوي الدخل المتوسط، متيحة لهم الدخول إلى أسواق العقارات في ضواحي العاصمة فقط، فيما حجبت ذوي الدخل المنخفض عن العاصمة ودفعتهم إلى أبعد بكثير من ضواحي العاصمة”.