كتبت صحيفة “الراي” الكويتية: يعاين لبنان، الخارج للتوّ من مأزق دستوري – سياسي استمرّ طويلاً، المتغيّرات المفصلية الجارية من حوله، ولا سيما تلك التي تطلّ برأسها على سورية وحربها بعد سريان وقف النار باتفاقٍ روسي – تركي – ايراني توطئةً لمفاوضاتٍ سياسية على وهج الاتفاق بين موسكو وأنقرة في ظل ارتياب طهران والانتكاسة في علاقات واشنطن وأنقرة.
ففي اللحظة التي يحزم الرئيس اللبناني ميشال عون حقائبه للقيام بأول جولة خارجية تبدأ غداً من المملكة العربية السعودية وتشمل بعدها مباشرةً قطر، يقف الإقليم فوق صفيح ساخن من التحولات بالتزامن مع متغيراتٍ هائلة في عواصم القرار الدولي يشكّلها استعداد دونالد ترامب لدخول البيت الأبيض وبدء العدّ العكسي لخروج فرانسوا هولاند من قصر الاليزيه.
فلبنان، الذي نجح في إطفاء محركات صراعه الداخلي عبر انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية وتشكيل حكومةٍ ائتلافية برئاسة سعد الحريري، يسعى وسط حقل الألغام الاقليمية الى إعادة التوازن لسياسته الخارجية عبر النأي عن “صراع الفيلة” في المنطقة، على النحو الذي يُرضي المملكة العربية السعودية ولا يُغضِب إيران، بعدما كان هذا الصراع أدى الى “تعليق” الدولة ومؤسساتها في لبنان على مدى نحو عامين ونصف عام.
ورغم السعي الى “فك الاشتباك” بين أزمة لبنان والصراع في المنطقة، فإن بيروت التي ما زالت أسيرة “ربْط النزاع” مع ما يجري في سورية وساحات أخرى بسبب أدوار “حزب الله” فيها، تجد نفسها معنيّة بالوقائع المتحرّكة فوق الرمال السورية وغبارها العسكري والديبلوماسي، نظراً للانعكاسات المحتملة عليها.
ولم يكن عادياً ان يتولى رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشوري الايراني علاء الدين بروجردي الردّ، ومن بيروت، على تركيا التي تطالب “بإخراج مقاتلي حزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى من سورية”، ما كشف عن حجم “الحرب الباردة” الدائرة بين طهران وأنقرة في لحظةِ خروج التباين بين الأجندتيْن الروسية والإيرانية في سورية وحيالها الى العلن.
وتدقّق بيروت في هذا الوقت كسواها بـ “القطبة المخفيّة” التي جعلتْ روسيا، المستعجلة لاستثمار إنجازاتها العسكرية في سورية بالديبلوماسية، تتخذ قراراً بسحب بعض قواتها وقطعها البحرية، وصلة هذه الوقائع بالاستعداد لملاقاة تسلُّم دونالد ترامب مقاليد الإدارة في الولايات المتحدة وبدء اتضاح الخيط الأبيض من الأسْود في سياسته الخارجية ولا سيما حيال سورية.
وسط هذه المناخات، يكتسب السباق الإقليمي على الإحاطة بالعهد الجديد في لبنان ومحاولة “الاستثمار” فيه أهمية مزدوجة، ذلك ان هذه الإحاطة مكّنتْه حتى الآن من الإفادة من الدعم الذي تبديه طهران والرياض لـ “الحال” اللبنانية الجديدة بحيث نجح في إرساء استقرارٍ سياسي بعد الأمني، كما أنها جعلتْه أكثر دينامية في السعي الى تطبيع علاقاته مع قوى متصارعة قررتْ جعل لبنان مكاناً لـ “اختبار التسويات”.
وفي هذا السياق جاءت زيارة بروجردي في يومها الثاني لبيروت معبّرة، حيث التقى رؤساء الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري والحكومة سعد الحريري، اضافة الى الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله، مكرراً موقف بلاده من الأوضاع في لبنان وسورية والمنطقة عموماً.
وقد نقل بروجردي الى عون تحيات الرئيس الايراني حسن روحاني ورئيس مجلس الشورى الاسلامي علي لاريجاني ورغبتهما في تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في وجوهها كافة، عارضاً “الجهود المبذولة لتحقيق حل سياسي للأزمة السورية يقوم على الحوار بين الأطراف السوريين والقضاء عليها”، ومعرباً عن أمله في ان تؤدي المفاوضات المرتقبة في الاستانة الى بلوغ الحل السياسي المنشود.
من جهته حمّل الرئيس عون المسؤول الايراني تحياته الى الرئيس روحاني، مشددا على ان “الاوضاع عادت الى طبيعتها في لبنان بعد الانتخابات الرئاسية، وان التوافق بين اللبنانيين سيؤدي الى مزيد من الازدهار والطمأنينة”، معرباً عن امله في ان “تنجح الجهود المبذولة للوصول الى حل سياسي للأزمة السورية بما يساعد على ايجاد حل لمأساة النازحين السوريين الذين بات عددهم في لبنان يقارب نصف عدد سكانه”. وشدد على “أهمية العمل المشترك لمواجهة الارهاب”، لافتا الى “ما حققه لبنان من نتائج بفعل العمليات الاستباقية التي تقوم بها القوى العسكرية والامنية اللبنانية”.
اما بعد لقائه الرئيس بري، فقال بروجردي: “أعربنا لدولته عن سعادتنا الكبيرة للاستحقاق المهمّ الذي تحقق في لبنان أخيراً وتمثّل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ونأمل ونعول كثيراً على ان هذا العهد سيحمل معه الكثير من الانجازات البناءة للبنان في مختلف المجالات. كما أعربنا عن تقديرنا العالي للدور الوطني والحكيم والبنّاء الذي قام به الرئيس بري في ادارته الحكيمة للعمل البرلماني الذي ادى في نهاية المطاف الى وضع حدّ للشغور الرئاسي وانجاز الاستحقاق كما ينبغي”.
والأكثر إثارة في توقيت زيارة بروجردي انها جاءت عشية توجُّه الرئيس عون على رأس وفد وزاري الى المملكة العربية السعودية، في زيارةٍ تبدأ غداً وتستمرّ حتى الثلاثاء ويلتقي خلالها كبار المسؤولين السعودية وفي مقّدمهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسط إشارات الى امكان ان تحمل هذه الزيارة مفاجآت سارة تكرّس عودة العلاقات بين بيروت والرياض الى سابق عهدها من الدفء والاحتضان من الجانب السعودي وطي نهائي لصفحة التوتر التي سادت على خلفية خياراتٍ في السياسة الخارجية للبنان خرج معها عن التضامن العربي مع المملكة بعد الاعتداء على سفارتها في طهران.
ولفت في هذا الوقت كلامٌ لوزير الداخلية نهاد المشنوق امس اذ اعتبر أن “رئيس الجمهورية بتصرفه وانفتاحه على مختلف الجهات سيساهم في إعادة إحياء رصيد لبنان العربي والدولي بعد أعوام من الاهتزاز والارتباك وخصوصاً أن الرئيس لم يأت للقيام بمواجهات”، مشيراً إلى أن “زيارة الرئيس عون المقبلة لكل من الرياض والدوحة والزيارات اللاحقة لا بدّ من أن تحمل نتائج ايجابية ومفيدة للبنان”، ومتوقعاً أن “تساهم في تحريك الهبة السعودية المجمّدة”.
وكان المشنوق يشير في كلامه الى هبة الثلاث مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني من فرنسا (اضافة الى هبة المليار دولار لدعم سائر القوى الأمنية) والتي كان عُلّق العمل بها في أعقاب إعلان الرياض في شباط 2016 إجراء “مراجعة شاملة لعلاقاتها مع الجمهورية اللبنانية” على خلفية ما اعتبرتْه حينها “مواقف لبنانية مناهضة لها على المنابر العربية والإقليمية والدولية، في ظل مصادرة ما يسمى”حزب الله”اللبناني لإرادة الدولة، كما حصل في مجلس جامعة الدول العربية وفي منظمة التعاون الاسلامي من عدم إدانة الاعتداءات السافرة على سفارة المملكة في طهران والقنصلية العامة في مشهد”.