كتب خيرالله خيرالله في صحيفة “المستقبل”:
بعد غد الجمعة 20 كانون الثاني، تدخل الولايات المتحدة مرحلة جديدة تختلف كلّياً عن تلك التي عاشتها في السنوات الثماني الماضية التي كان فيها باراك أوباما رئيساً للدولة العظمى الوحيدة في العالم. اقلّ ما يمكن وصف ما يدور في واشنطن منذ فوز دونالد ترامب على هيلاري كلينتون بانّه انقلاب.
كيف ستكون ترجمة هذا الانقلاب على ارض الواقع؟ يختزل هذا السؤال كلّ ما يجول في خاطر قادة العالم الذين راهنوا في معظمهم على ان كلينتون ستنتصر على ترامب.
ساهم باراك أوباما، الذي كان اوّل رئيس اسود لأميركا، في تغيير صورة بلاده في العالم. حوّلها الى متفرّج على الاحداث وشاهد على المأساة السورية
لا اكثر في حين كان في استطاعته وضع حدّ لها. ستلاحق لعنة سوريا أوباما الى اليوم الأخير من حياته بعدما ادار ظهره لشعب بكامله وسلّمه الى آلة القتل المتمثلة بالنظام الاقلّوي وداعميه من إيرانيين وميليشيات مذهبية تابعة لهم.. وروس.
اذا كان من مؤسس للانقلاب الذي جاء بدونالد ترامب رئيساً، فهذا المؤسس هو باراك أوباما نفسه الذي لم يستطع المحافظة على حدّ ادنى من المعايير الأخلاقية في تعاطيه مع بقية العالم وعلى حدّ ادنى من الدور الاميركي.
قرّر الرئيس الأسود التخلي عن الدور القيادي للولايات المتحدة. نسي ان من انتصر في الحرب الباردة كان اميركا، بكلّ ما يفترض ان تمثّله من قيم مرتبطة بالحرّية والعدالة، وليس الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن سوى قوّة امبريالية لم تترك بلداً دخلته الّا وجلبت معها الخراب والدمار والفقر والقمع.
بفضل اميركا وانتهاء الحرب الباردة تحرّرت كلّ أوروبا الشرقية وتوحّدت المانيا.
ليست الولايات المتحدة التي انهارت. من انهار كان الاتحاد السوفياتي الذي خرجت دول البلطيق (ليتوانيا واستونيا ولاتفيا) من تحت سيطرته. كذلك خرجت من تحت نير الاستعمار السوفياتي الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءاً من الإمبراطورية التي أسسها لينين.
نسي باراك أوباما انّ هناك تطلعات لدى الاتحاد الروسي الذي خلف الاتحاد السوفياتي في أوكرانيا. تغاضى عن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وعن تدخلها الوقح في الشؤون الأوكرانية من منطلق الخوف من انضمامها الى حلف شمال الأطلسي. عمل كلّ شيء من اجل افهام الاوكرانيين ان ليس امامهم سوى الاستسلام لفلاديمير بوتين.
كان متوقّعاً ان يصلح أوباما الأخطاء التي ارتكبها سلفه جورج بوش الابن في العراق. زاد على أخطاء السلف. اذا كان جورج بوش الابن سلّم العراق على صحن من فضّة الى ايران في 2003، فانّ باراك أوباما كرّس في 2010 انتقال العراق الى وضع المستعمرة الايرانية عندما وافق على الانسحاب العسكري المبكر منه بالتفاهم مع طهران وبموجب شروطها. تجاهل كلّ ما من شأنه المحافظة على حدّ ادنى من الوجود الاميركي في العراق تفادياً لسقوطه نهائياً تحت الهيمنة الايرانية وهيمنة الميليشيات المذهبية.
لا حاجة الى الإشارة الى الدور الذي لعبه أوباما في مجال تهميش أوروبا. نزع انياب حلف شمال الأطلسي واهمل العلاقات معها وجعلها تتراجع امام الهجمة الروسية. قد يذهب ترامب الى ابعد من أوباما في تهميش أوروبا وحلف الاطلسي، لكنّه، على الأقل، صريح في كشف نياته ولا يختبئ وراء اصبعه كما فعل الرئيس المنتهية ولايته.
قبل انتخابه رئيساً في العام 2008، قام باراك أوباما بجولة شرق أوسطية. عندما قابل، وقتذاك، رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس (أبو مازن) في رام الله، وعده بانّه لن يترك معالجة القضية الفلسطينية الى الأسابيع الأخيرة من ولايته الثانية، بل سيباشر جهوده من اجل تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في اليوم الاوّل الذي يدخل فيه البيت الأبيض. كان بذلك ينتقد جورج بوش الابن الذي لم يكترث للقضية الفلسطينية الّا في نهاية عهده.
وفى اوباما بوعده. ارسل مبعوثاً الى إسرائيل والأراضي الفلسطينية وما لبث ان تراجع بعد ان تصدّى له بنيامين نتنياهو في واشنطن. سمح الرئيس الاسود لرئيس الوزراء الإسرائيلي بان يكون صاحب الكلمة الاولى والأخيرة في عاصمة القرار الاميركي والدولي. الآن، عشية خروجه من البيت الأبيض، يبيع أوباما الفلسطينيين الاوهام ان عبر السماح لمجلس الامن بتبني قرار ضد الاستيطان الإسرائيلي وامّا عبر تأييد ادارته للبيان الختامي لمؤتمر باريس الذي يركّز على انّ لا حل الّا باعتماد خيار الدولتين.
لا شكّ ان القرار الصادر عن مجلس الامن مهمّ. كذلك البيان الصادر عن مؤتمر باريس الذي شاركت فيه سبعون دولة. ولكن ما فائدة ذلك كلّه؟ هل يستطيع الفلسطينيون البناء على القرار الدولي والبيان الباريسي من دون ان يكون هناك ما يوحي بانّ الإدارة الاميركية الجديدة ستدعمهما.
في عهد باراك أوباما، لم تعد اميركا هي اميركا. هناك رئيس أميركي قرّر الاستسلام لروسيا وايران. اختزل كلّ مشاكل الشرق الاوسط بالملفّ النووي الايراني!
لكنّ المصيبة الكبرى تكمن في انّ باراك أوباما، الذي كان يمثّل الامل، مارس ما هو اشدّ من الظلم عندما سمح لبشّار الأسد بالإفلات من العقاب الفوري صيف العام 2013. وقتذاك، كانت هناك بقية امل في انقاذ ما بقي من سوريا. لم يردّ الرئيس الاميركي على استخدام السلاح الكيميائي في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه. فضّل التفرّج على المأساة خشية ازعاج ايران التي كانت تفاوض في شأن ملفّها النووي…
مهما مرّ من زمن، لن يذكر التاريخ أوباما سوى بانّه الرئيس الأسود الاوّل للولايات المتحدة وانّه بطل المأساة التي تعرّض لها الشعب السوري، وهي المأساة العالمية الأكبر، على الصعيد الإنساني، منذ بداية القرن الواحد والعشرين. انقلب اوباما على جورج بوش الابن. هناك الآن من سينقلب عليه وعلى كلّ ارثه، هذا اذا كان من ارث يتركه.