كتب رضوان مرتضى في صحيفة “الأخبار”:
جنّبت استخبارات الجيش وفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي لبنان مجزرةً محقَّقة. أطبق عناصر قوّة خاصة في فوج المكافحة في الجيش على الانتحاري قبل تفجير نفسه بلحظات. غير أنّه ما إن أُعلن عن إحباط العملية في مقهى الكوستا في الحمرا، حتى انطلقت حملات للتشكيك و«التبخيس» بالعملية النوعية. عزّزت ذلك جملة تساؤلات بقيت من دون أجوبة.
إذا كانت الأجهزة الأمنية تعرف الانتحاري، فلماذا لم توقفه قبل دخول المقهى أصلاً؟ ألم يكن أي خطأ سيؤدي إلى وقوع مذبحة؟ هل كانت الأجهزة الأمنية تعرف هويته الحقيقية؟ هل كانوا في انتظاره، أم أنهم كانوا يلاحقونه؟ كيف رصدوه، ولماذا لم يُفجّر نفسه قبل توقيفه؟ لماذا خرج الانتحاري من المقهى ثم عاد ليحاول الدخول؟ هل كان مقهى الكوستا هدفاً للانتحاري أم محطة لانتقاله إلى نقطة أخرى؟
غياب الإجابات عن هذه الأسئلة فتح الباب أمام التكهّنات، ما سمح بتأليف سيناريوات لا تمت إلى الحقيقة بصلة. وزاد الطين بِلّة اعتبار البعض بيان الجيش «متناقضاً» مع إفادات الشهود العيان، ولا سيما إشارة البيان الى أنّ عناصر الاستخبارات منعوا الانتحاري من دخول المقهى، فيما قال الشهود إنّه كان داخل المقهى وخرج. أُضيف إليها تساؤل عن سبب حمل الانتحاري بطاقة هويته معه؟ علماً بأنّها ليست المرة الأولى التي تُضبط فيها بطاقة هوية مع انتحاري، صحيح أنّ بعضها قد يكون مزوّراً أحياناً، إلا أنّ بعضهم عُثر على بطاقة هويته الحقيقية في موضع التفجير أو في آخر مكان انتقلوا إليه، ومنهم انتحاريا السفارة الإيرانية معين أبو ظهر وعدنان المحمد، وهما من جماعة الشيخ أحمد الأسير أيضاً، وكانت في حوزتهما بطاقتا هوية. والسبب بسيط، إذ إنّ المشتبه فيه يحتاج الى الهوية للتنقّل للحؤول دون توقيفه على الحواجز الأمنية قبل أن يصل إلى هدفه.
أمام كل ما تقدّم، كاد يضيع جهد «الاستشهاديين» الذين حملوا دمهم على أكفّهم وأوقفوا انتحارياً يحمل حزاماً ناسفاً كان يمكن أن يمزّقهم إلى أشلاء في أي لحظة. هل سأل أحدٌ من هؤلاء نفسه عمن يجرؤ على الاقتراب من رجلٍ يحمل حزاماً ناسفاً ومستعد لسحب حلقة التفجير في أي لحظة يشعر فيها بالخطر؟ هل كان يُفترض أن تقع الواقعة أو يسقط عناصر استخبارات الجيش وروّاد المقهى شهداء حتى تؤدى التحيّة لهم؟
ماذا حصل ليلة السبت فعلاً؟ ما قصّة الاتصال الذي أوقع بالانتحاري؟ وكيف نسّقت استخبارات الجيش مع فرع المعلومات؟
لم يكن السبت يوماً عادياً. كانت الأجهزة الأمنية تترقّب عملاً انتحارياً، بعد انذارٍ تلقته يُفيد عن احتمال تنفيذ خلايا متشددة مرتبطة بتنظيم «داعش» تفجيرات ضد أهداف مدنية. لم يكن الهدف محدّداً أو واضحاً. الخشية كانت عامة، إلا أن «بيكار» الاستهداف حُصِر بثلاث مناطق: وسط المدينة، الجميزة والحمرا، ولا سيما أنّ استخبارات الجيش كانت قد أوقفت نهار الجمعة الشاب بلال ش. في وادي خالد، الذي اعترف بأنّه كان ينوي تنفيذ عملية انتحارية ضد أهداف في لبنان. الموقوف الذي قضى سنتين في سجن رومية المركزي لارتباطه بـ«الأمير العسكري» لـ«النصرة» في الشمال أسامة منصور، أبلغ المحققين أنّه بايع لاحقاً تنظيم «الدولة الإسلامية» في الرقة، وأنّه تواصل مع قيادي في الرقة يبلغه بنيته تنفيذ عملية انتحارية في سوريا، غير أنّ الأخير أشار عليه بتنفيذها في لبنان، وتحديداً في العاصمة بيروت. وطلب إليه الانتظار لتحديد الهدف وتسليمه حزاماً ناسفاً. وهكذا كان، غير أنّ استخبارات الجيش تمكنت من توقيفه قبل تنفيذ العملية وضبطت متفجرات لديه. توقيف بلال ش. لم يرفع الخطر. كان التهديد لا يزال قائماً.
ترافق ذلك مع «رأس خيط» كانت تتابعه استخبارات الجيش يتعلّق بانتحاري محتمل قد يتحرّك لتنفيذ عمليته في بيروت. أصل المعلومة حصلت عليه استخبارات الجيش من فرع المعلومات. جرت «مقاطعة» المعلومات والتنسيق في هذا الخصوص. الرصد التقني كان دليل المحققين. كان ضباط الاستخبارات قد حصلوا على رقم هاتف الانتحاري المفترض، لكنّ هويته كانت لا تزال مجهولة. جرى تعقّبه تقنياً منذ بداية النهار، لكن لم يكن هناك إمكانية لتوقيفه في المرحلة الأولى. فقد كان المشتبه فيه «يختفي» بإطفاء هاتفه من حين إلى آخر، ما يُضيِّع أثره. لكن عناصر مجموعة القوة الخاصة في فوج المكافحة في مديرية استخبارات الجيش قرروا نصب أكثر من كمين، أحدها كان في منطقة الكولا، فيما الآخر في مقهى الكوستا في الحمرا. انتظره عناصر القوّة الخاصة في المقهى، علماً بأنّ هذه المجموعات تلقت تدريبات على توقيف الانتحاريين. ولدى دخول الانتحاري إلى المقهى، لم يتعرّف إليه أفراد المجموعة. مكث لدقائق، كان فيها مربكاً قبل أن يخرج ليجري اتصالاً. أجرى اتصالين، فكان ذلك كفيلاً بكشفه. إذ تمكن فريق الرصد التقني من تحديد الهدف فور استعماله هاتفه. أُبلغت المجموعة الكامنة في الداخل ليُحدّد الهدف بـ«علامة فارقة». وبعدما حاول الدخول مجدداً، تم الإطباق عليه. أوقف بطريقة مباغتة من قبل أفراد المجموعة الذين حرصوا على تثبيت يديه لمنعه من تفجير نفسه، فيما تولّى اثنان منهم ضربه على رأسه لإفقاده وعيه. لماذا لم يُفجّر الانتحاري نفسه فور دخول المقهى؟ تردّ المصادر الأمنية بأنّه فوجئ بعدد زبائن المقهى الذي كان قليلاً. وبحسب المصادر، كان عمر العاصي ينتظر اكتظاظ المقهى برواده لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا. وأفاد أحد العاملين في الـ«كوستا» بأن العاصي دردش معه عن العمل، وسأله عن «ساعة العجقة».
تردد أن العاصي مكث ليلة في مخيم برج البراجنة، لكنّ المصادر الأمنية نفت ذلك، مؤكدة أنّه لم يدخل الضاحية الجنوبية لبيروت أصلاً، إنما انطلق من صيدا متوجّهاً إلى بيروت. وبعد توقيفه، جرى دهم منزله في شرحبيل في صيدا. فأوقف شقيقاه وشخصان كانا عندهما في المنزل للتحقيق في احتمال تورطهم معه. كما صودر جهاز كمبيوتر من منزله. وقد تبيّن أنّ العاصي من جماعة الأسير، علماً بأنّه سبق أن أصيب في اشتباكات وقعت في عام ٢٠١٣ في صيدا. وقد ظهر في مقطع فيديو تزوره النائبة بهية الحريري للاطمئنان إلى صحته.
لم ينتهِ التحقيق مع العاصي بعد. المعلومات الأولية تُفيد بأنّ الموقوف عبّر عن عدم ندمه على تخطيطه لاستهداف المدنيين بعملية انتحارية، وأبلغ المحققين أنّه على استعداد لإعادة الكرّة إنّ قُدِّر له ذلك، قائلاً لهم: «لست نادماً. بعملها مرة تانية».
عمر العاصي… من الأسير إلى «داعش»
من تفجير السفارة الإيرانية مروراً بتفجير الطيونة وصولاً إلى «انتحاري الكوستا»، تكبر لائحة أسماء أتباع الشيخ أحمد الأسير الذين تحوّلوا إلى انتحاريين يتوزعون بين تنظيمات «كتائب عبدالله عزام» و«داعش» و«جبهة النصرة». هكذا يُطل شبح الأسير مع كل عملية أمنية. ويُسَجّل له انه «خرّج» أول انتحاري لبناني يُفجّر نفسه بمدنيين لبنانيين.
في اليومين الماضيين، لم يكد يُعلن عن توقيف عمر العاصي حتى توارى عن الأنظار أحد المقربين منه. العاصي، الشاب الذي يعمل ممرضاً في مستشفى حمود، كان يتجوّل بحرية لكونه لم يكن مطلوباً للأجهزة الأمنية، بخلاف ما تردد في وسائل الإعلام. وقد ورد اسمه في محاضر اعترافات عناصر الاسير عند اعتقال خلية باب السراي في صيدا أواخر ٢٠١٤، التي لعبت دوراً أساسياً في تأسيس الخلايا النائمة المرتبطة بالأسير. غير أنّه لم يشارك في معركة عبرا لأنه كان يعالج في المستشفى بعد إصابته في الاشتباك الذي اندلع قبل اسبوع بين الاسير وسرايا المقاومة. بعد أحداث عبرا، بايع العاصي تنظيم «داعش». وقد انتشرت صورة له مع النائبة بهية الحريري، تبيّن انها التُقِطَت عندما كانت تزوره في المستشفى، بعد إصابته في الاشتباك قبل معارك عبرا.
وفيما زار مقهى كوستا ليل امس كل من رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الدفاع يعقوب الصرّاف ووزير الداخلية نهاد المشنوق، وأشادوا بجهود الأجهزة الأمنية في إحباط العملية الإرهابية، اكًدت مصادر رسمية أن حال التأهب الأمني لا تزال في ذروتها.