كتبت ربى منذر في صحيفة “الجمهورية”:
دخلَ المقهى لوحده حيث كانت مجموعات من الناس تقضي وقتها، البعض يتبادل الأحاديث ويضحك، البعض الآخر يحتسي قهوته برفقة الحاسوب، فيما أراد آخرون أن يكون ليل السبت هادئاً بعيداً عن صخبِ الموسيقى أو التلفزيون، فاختاروا جميعهم مقهىً ساكناً في الحمراء مستمتعين بأغاني فيروز.أمّا هو، فجالَ بنظره عليهم، رآهم مشاريع ضحايا، أراد أن تكون هذه الليلة، ليلتَهم الأخيرة، ومن دون ذنبٍ اقترفوه أراد محاسبتَهم، ابتسَم في سرّه لامتلاكه سلطةَ إنهاء حياتهم بكبسة زرّ، فهذا ما اعتقدَه.
وبين الروّاد، “مدنيون” من نوعٍ آخر، يجلسون على طاولة في الداخل وآخَرون في الخارج، ما يَجمعهم نظراتهم الحذرة ومراقبتُهم الثاقبة، نظر إليهم أيضاً على أنّ حياتهم ستنتهي بأمرٍ منه، لم يَعلم وقتَها أنّهم انتظروه طويلاً، وفي حوزتهم مفاجأة له.
حقيقة واحدة، وروايات عدة، هكذا يمكن اختصار ليل السبت في مقهى “كوستا” في الحمراء، وفي هذا الإطار تكشف “الجمهورية” حقيقةَ ما حصل، وعمليةَ الرصد التي سبقت التنفيذ، بحسب مصدر أمني.
من طرابلس إلى الحمرا
يوم السبت الذي قرّرت “داعش” أن يكون أسود، فشلَ منذ الفجر، فمِن جهة أوقِف الإنتحاري (ب.ش.) في طرابلس، وهو ينتمي الى مجموعة أسامة منصور. الموقوف كان مسجوناً في رومية وأطلِق سراحه، ونتيجة اتصالاته المتكرّرة مع “داعش” اختُرقت الخلية التي ينتمي إليها من خلال عميل فيها، وأوقِف قبل تنفيذه عمليةً كان ينوي من خلالها القضاءَ على عدد كبير من الضحايا، بأوامر مباشرة من الرقة.
أمّا مساءً فأحبَطت مديرية المخابرات بالتنسيق مع فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، عمليةً انتحارية في مقهى “كوستا”، أسفرَت عن توقيف الانتحاري عمر حسن العاصي الذي كان يحمل بطاقة هويته حيث غاب عن انتباهه، كما آخرون قبله، إخفاءَها، وضبطت الحزام الناسف المنوي استخدامه ومنعَته من تفجيره، فكيف حصلت عملية رصدِه إلى حينِ كشفِه؟
إستنفار
منذ ما قبل عيد الميلاد، توافرَت لمديرية المخابرات معلومات تفيد بأنّ الأوضاع في سوريا والتطورات فيها، إضافةً الى الضربات التي وجّهها الجيش لـ”داعش” في الجرود، دفعت التنظيم الى اتّخاذ قرار بتوسيع نشاطات عناصره على الأراضي اللبنانية بهدف رفعِ معنوياتها، لذلك أقام شبكات جديدة وحرّك أخرى كانت موجودة بقيادة أشخاص معروفين وغير معروفين.
أمّا الأجهزة الأمنية، ومنذ اطّلاعها على هذه المعلومات، فعّلت نشاطاتها ميدانياً ومن خلال الرصد والمتابعة، لتُحقّق الى جانب فرع المعلومات إنجازاً أمنياً جاء نتيجة تقاطعِ معلومات الجهازَين حول شخص واحد، وهو ما قلّما يحصل، فنَسّقا على أعلى المستويات ووزّعا المهام، علماً أنّ عملية التوقيف نفّذتها المديرية وحدها ولكنْ بوجود عناصر من المعلومات.
تحرّيات كثيرة أُجريَت حول الانتحاري الموقوف، فتبيّن أنّه كان من مؤيّدي الشيخ الموقوف أحمد الأسير وأصيبَ قبل معركة عبرا بثلاثة أيام في اشتباك مع “سرايا المقاومة”، نُقل على إثرها الى المستشفى، وأنه كان يعمل في الإسعاف الطبي في مسجد بلال بن رباح. والده متوفٍ، وأمّه ملتزمة جدّاً، وقد عمل في محلّ عصير مع أخيه، ثمّ ممرضاً في مستشفى حمود في قسم الأطفال.
الانتماء
العاصي بايعَ “كتائب عبدالله العزام” بقيادة الشيخ سراج الدين زريقات الذي بايعَ “داعش” بدوره، وهو موجود في جرود عرسال بعدما هرب من مخيّم عين الحلوة. أمّا حول جنسية العاصي، فلم يكن هناك لغطٌ، إذ إنّ الأجهزة الأمنية كانت تَعلم أنه لبناني، غير أنّ بعض الذين حدّثهم في المقهى شكّوا في أن يكون فلسطينياً لتقاربِ لجهتهم مع لهجته الصيداوية، وعلى هذا الأساس سُرّبت المعلومات الخاطئة.
وبعدما أكّدت معلومات نيّتَه تنفيذَ عملية انتحارية هدفُها إيقاع أكبر عدد من الضحايا، رُصِد الموقوف 24 على 24، واللافت أنه لم يكن قد حدّد هدفَه في البداية، وهذه استراتيجية جديدة لـ”داعش”، حيث بات يطلب استهدافَ أكبرِ عددٍ من الحشد بغضّ النظر عن مكانهم، ولم يعُد يستهدف منطقة معيّنة كالضاحية الجنوبية مثلاً.
حقيقة ما حصل
يوم الجمعة صباحاً، غادر الانتحاري العاصي بيتَه بشكلٍ طبيعي، حيث لم يكن أحد يَشعر بما يثير الريبة حول احتمال انتمائه لمجموعاتٍ إرهابية، منذ هذه اللحظة كان تحت المراقبة التامّة والدقيقة.
إستطلعَ العاصي يوم الجمعة منطقة الحمراء، فتمكّنَت الأجهزة الأمنية من معرفة الوجهة التي اختارها لتنفيذ مخططه. أمّا يوم السبت، فانتشرت العناصر داخل المقهى وعلى الرصيف حيث تصطفّ طاولات تابعة للمقهى أيضاً باللباس المدني تفادياً للفتِ النظر، نزل العاصي من سيارة بعد الـ”كوستا” بنحو مترين أو ثلاثة، مشى بعكس السير ودخل المقهى.
العناصر التي كانت في الداخل تعرفه، جلس، استطلعَ المكان مرّةً أخرى، تحدّث إلى النادل، خرج لتلقّي مكالمةٍ هاتفية، وعند معاودته الدخول أقفَلت العناصر التي كانت في الداخل بابَ المقهى، فيما هجَم عليه العنصران اللذان كانا في الخارج.
دقّة التنفيذ
كالحلم حصلت العملية، السرعة والدقة كانتا عنوانها، لم يعلم للوهلة الأولى أنّهم عسكر، إذ لم يكن في حوزتهم أسلحة، فحصَل تضارُب بينه وبينهم وثبّتوه مانعين إيّاه من استخدام يديه للضغط على الزر، فيما فكّك الخبير العسكري الحزام، ونُقل إلى مكان آمن، ليست الجامعة الأميركية كما سُرّب، ولا أيّ مكان معروف، وهو ما زال فيه حتى الساعة.
إصاباته التي تمَّ التحدّث عنها هي عبارة عن رضوض نتيجة الضرب الذي اضطرّ العناصر للّجوء إليه لتثبيته، حيث خبط رأسه ووجهه وكتفَيه في الأرض. أمّا الحزام فهو كناية عن 8 كيلوغرام من الـTNT، إضافةً الى نحو كيلوغرامين من الكرات الحديدية، وذلك بهدف إيقاع أكبر خسائر في الأرواح.
والسؤال هنا: لماذا سَمحت العناصر بدخوله المقهى طالما كانت على عِلم بمخططه؟ أمّا الإجابة فلن تتوافر الآن، لكن ما يمكن معرفتُه هو أنّ ما حصل لم يكن صدفةً، بل أنّه كان معروفاً ومحدّداً ومتروكاً ومدروساً وتحت السيطرة، وذلك لهدفٍ معيّن تحقّق وسيُكشَف عنه لاحقاً، لكنّ الأكيد أنّه لم يكن ينوي تفجيرَ نفسه في اللحظة التي دخل فيها، وإلّا لَما كانوا تركوه كلّ هذا الوقت.
عسكر… إنتحاريون
يمكن وصفُ العملية بالدقيقة جداً والسريعة، والعسكر الذين نفّذوها كانوا مشاريعَ انتحاريين بدورهم، خاطروا بحياتهم عَلناً لأنه في أيّ لحظة كان بإمكان شخص آخر تفجير العاصي عن بعيد، ولكانت حصلت مجزرة بالمجموعة المنفّذة، والأهمّ مِن ذلك أنّ المكان أخليَ من دون أن يصاب أحد، وهو ما لا يحصل عادةً مع عدد كبير من الناس، الذين لم يعرفوا ما كان يحصل لحين انتهاء العملية.
مجريات التحقيق
حتى الآن، التحقيق ما زال في بدايته، والمعلومات التي نُشرَت ليست دقيقة كون العاصي لم يصرّح بشيء بعد، لكن بعضها معروف نتيجة المتابعة، مثل أنّه ينتمي لـ”داعش” وأنّه كان على تواصُل مع مجموعات الرقة.
حاسوبُه خالٍ من أيّ معلومات مهمة، لكنّ الأجهزة ستتوصّل لمعلومات كان قد ألغاها. وقد عُلم أنّ عدد الموقوفين 4، إثنان منهم من آل البخاري والحلبي يقطنان في البناية الى جانبه، علاقتُه بهم قوية بحسب جيرانه، إضافةً الى شقيقيه محمد وفاروق.
أمّا في شأن دخوله مخيّم عين الحلوة فلا معلومات أكيدة، بل يُدقّق فيها، كما أنّ تبَعيته لمجموعة داخل المخيّم ليست أكيدة، لكنّ المعلوم أنّ كلّ جماعات “داعش” تأخذ أوامرَها من الرقة مباشرةً من خلال اتصال على الإنترنت.
وعلمت “الجمهورية” أن لا علاقة للعاصي بشادي المولوي، إذ إنّ شبكة رأس السنة وعيد الميلاد تابعة لـ”جبهة النصرة”، كما أن لا علاقة له بالخلية التي أوقِفت في طرابلس فجر السبت.
وفي ما يخصّ حزامَه الناسف فقد تسَلّمه في الكولا، وهناك شخصٌ أوصَله إلى بيروت. ولتحقيقٍ أدقّ، فُكّكت كلّ الكاميرات في المنطقة لتحليلها ومعرفة التفاصيل، إذ إنّ الملاحقة لم تكن مرئيّة بل من خلال وسيلة أخرى.
الحمراء لم تخَف
لم ترتدِ الحمراء حلّةَ الخوف أمس، فروّادُها لم يقاطعوها، “في منُن إجو تَيثبتوا للإرهابيّي إنّو ما في شي بيخوّفنا”، يقول مدير الـ”كوستا” لـ”الجمهورية”، مضيفاً: “ما حصَل كان حلماً، الجميع تركَ المقهى راكضاً عندما هجَموا على الإنتحاري، إلّا أنّ شيئاً لم يؤثّر على تهافتِ الناس إلى المقهى اليوم رغم تهديد كلّ الأمكنة العامة”.
أمّا صيدا، فاستفاقت ومعها الجنوب على وقعِ الصدمة والذهول، فهي ترفض الإرهابيين كما رفضتهم في الماضي، وهي تتمسّك بالعدل وترفض الاعتداء على الآمنين، فيما لا تزال عناصر من الجيش تضرب طوقاً أمنياً حول منزل العاصي في منطقة شرحبيل شمال شرق المدينة.