كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
كان الوزير جبران باسيل جريئاً في مطرانية الكلدان، عندما دعا صراحة إلى «إلغاء الفكر الماروني المتعالي» على مسيحيّي المذاهب الأخرى. طبعاً، كثير من الموارنة ربما اعتبروا الاتهام ظالماً، عدا عن كونه جزئيّاً لا شاملاً. وربما يعتبره البعض من مخلّفات مرحلة مرّ عليها الزمن.ما يريح في كلام باسيل أنه صدر عن ماروني هو رئيس «التيار الوطني الحرّ». ولو صدر عن قيادي مسيحي من مذهب آخر لربما أحدث بلبلة في الأوساط المسيحية ليست في موقعها الصحيح ولا في وقتها.
في رأي البعض أنّ بعض القادة الموارنة التقليديين، السياسيين وأحياناً الروحيين، تعاطوا مع لبنان منذ الاستقلال على أنه خصوصية مارونية قبل كلّ شيء، وأنّ أولوية أبناء الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والطوائف الأقلية المسيحية هي انتشارهم الحيوي المشرقي أو العروبي. والدليل أنّ مراكز بطريركياتهم ورعاياهم، تاريخياً، كانت في سوريا والعراق وفلسطين. وأما الموارنة فليس لهم سوى لبنان.
هناك ما يبرِّر هذه النظرة في أيّ حال. فالمفكرون الأرثوذكس هم الذين صنعوا الأحزاب العقائدية السورية (أنطون سعادة) والعروبية (ميشال عفلق). أما في فلسطين، فالرموز الكاثوليكية هي أبرز وجوه العروبة والنضال الوطني ضد الاحتلال. أما لبنان، فكان يرتاح موارنته إلى أنه «ذو وجه عربي». يكفيه «الوجه»!
ولطالما تمّ التداول في أوساط مسيحية أنّ البطريرك الماروني الياس الحويك، الذي وُلِد على يده لبنان الكبير، فضّل أن تنتهي حدود الكيان الوليد شمالاً عند ضفاف النهر الكبير الجنوبي، فلا يشمل وادي النصارى، على رغم ما فيه من حضور مسيحي وافر.
والسبب، كما يُقال، هو أنّ ضمّ الوادي قد يجعل الأرثوذكس هم الغالبية داخل المجموعة المسيحية في لبنان. وهذا يخالف الفكرة التي كان يريدها قادة الموارنة في ذلك الوقت، أي أن تكون لهم كلمتهم في لبنان الكبير، كما كانت في لبنان الصغير.
طبعاً، اليوم، بعد 100 عام، اختلف الوضع جذرياً: لم يضعف حضور الموارنة داخل المجموعة المسيحية في لبنان، بل ضعف حضور المسيحيين جميعاً داخل المجموعة الوطنية. وبات هاجس المسيحيين اليوم استعادة التوازن المفقود في الديموغرافيا والشراكة في السلطة في مقابل المسلمين.
وفلسفة الأحزاب المارونية التقليدية التي قامت عشية الاستقلال، على «الفكر اللبناني» أو الوطنية أو القومية اللبنانية، باتت اليوم أكثر انفتاحاً على المشرقية، أي أنها اقتربت من نهج أبناء الكنائس المشرقية الأرثوذكسية والكاثوليكية الأخرى.
في المقابل، اندحر أبناء هذه الكنائس من فلسطين نتيجة الاحتلال والظروف الرديئة، ثمّ من سوريا والعراق نتيجة الحروب والاضطهادات، وتوجّهوا إلى لبنان، إما للثبات فيه وإما ليكون ملجأً آمناً قبل الانتقال إلى محطة أخرى. وبرز لدى هؤلاء اقترابهم من «الفكر الماروني» الذي يشدّد الرهان على خصوصية لبنان.
ما يمكن قراءته في الخلاصة هو أنّ المسيحيين جميعاً، بمختلف مذاهبهم، في لبنان وسائر المشرق، تقاربوا اليوم إلى حدّ أقصى. المصيبة جمعتهم. وسواءٌ منهم موارنة لبنان أم الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن والسريان باختلاف مكوِّناتهم في لبنان وسوريا والعراق، فإنهم التقوا عند منتصف الطريق: «لبنان نطاق ضمان للفكر الحرّ». تلك التي قالها أنطون سعادة لا بيار الجميل.
إذاً، بدت الظروف السياسية والفكرية والاجتماعية مناسِبة ليطلق الوزير باسيل موقفه. وهل كان الكلام على «التعالي الماروني» يمرّ مرور الكرام لولا نضوج هذه الظروف؟ لكنّ الأهم هو انتقال باسيل إلى طرح صيغة تنفيذية للخروج من الواقع المذهبي للمسيحيين في لبنان.
قال باسيل في مطرانية الكلدان: «ندعو الى إلغاء المذهبية المسيحية. المسيحيون يجب أن يكونوا مذهباً واحداً، ويجب أن نصل الى إلغاء الفَارق بين المسيحيين داخل الإدارة. ومن أجل ذلك، قدّمنا اقتراح قانون انتخابي يجمع المسيحيين، فلا تكون هناك مذاهب وأقليات، ولا يدفع المسيحيون ثمن انتشارهم على كلّ الجغرافيا اللبنانية. وهذا الطرح يلقى القبول، ونتمنّى أن يُقرّ».
المواكبون لموقف باسيل يقولون: «أصبح ملحّاً اليوم الذهاب إلى خطوة حاسمة توفِّر الحماية للمسيحيين جميعاً في لبنان، بمختلف ألوانهم المذهبية، وهي إلغاء المعيار المذهبي في ما بينهم في مؤسسات الإدارة وقانون الانتخاب».
المقصود في ما يتعلّق بالإدارة هو الآتي: «قد يشغر موقع في إحدى المؤسسات العامة يشغله أرثوذكسي مثلاً. وقد لا تتوافر الشروط لإيصال أرثوذكسي آخر إليه، فيما المتاح إيصال ماروني أو كاثوليكي أو أرمني أو سرياني. ولئلّا يفقد المسيحيون هذا الموقع ويذهب إلى سواهم، يُصار إلى المقايضة بين المسيحيين أنفسهم في المواقع.
أما في ما يتعلّق بقانون الانتخاب، فالهدف هو الحؤول دون تحويل الانتشار الديموغرافي المسيحي على مستوى كلّ المحافظات والأقضية نقطة ضعف تمثيلية. فالأعداد القليلة نسبياً من الناخبين المنتمين إلى مذاهب مسيحية مختلفة في دوائر انتخابية عدّة تصبح ذات قيمة إذا اتَّحدت ضمن خيارٍ إنتخابي مشترك، بحماية النظام النسبي.
فالمسيحيون موزَّعون ديموغرافياً من الشمال إلى الجنوب وليسوا متمركزين في مناطق دون سواها، كما هي الطوائف الأخرى إجمالاً. كما أنهم أكثر تعدّدية مذهبية من المسلمين. ولذلك، تأتي النسبية لتعالج خصوصية التوزّع الديموغرافي، ويأتي التوحيد المذهبي ليعالج خصوصية التعدُّد.
ولكن، هل يقود هذا الطرح إلى توحيد المذاهب المسيحية على مستوى التمثيل النيابي، فيتمّ إلغاء المذهبية على مستوى الـ64 نائباً مسيحياً؟
المتابعون يقولون: «إنه أمرٌ سابق لأوانه، ويحتاج إلى درس أعمق للمفاعيل. وثمّة مَن يعتقد أنّ خطوة من هذا النوع قد تستثير كثيرين في وجه أيّ قانون انتخاب يُراد منه بلوغ هذا الهدف، ويسأل: «لقد تصالح «التيار الوطني الحرّ» و«القوات اللبنانية» فقامت قيامة البعض، فماذا يحصل إذا تمّ التوجُّه إلى خطوة حاسمة كإلغاء المذاهب في المقاعد المسيحية؟
الأرجح أنّ كثيرين سيتضرَّرون وسيعملون لإحباط خطوة من هذا النوع. وإذا تحققت، فقد يواجهونها بطروحات أخرى، ولو من خارج الدستور، من نوع: «لماذا لا نقيم مثالثة بدل المناصفة؟».
ولكن، يسأل البعض: «أليس مشروعاً الاعتراض على طرح من هذا النوع، إذا صدر عن باسيل أو سواه، ويقود إلى احتكار التمثيل المسيحي بأحادية أو ثنائية أو ثلاثية؟
المواكبون لخطوات باسيل يقولون: «ليس في برنامج «التيار» و«القوات» إلغاء أحد. والحوار مفتوح، والجميع له موقعه، ولكن تحت سقف الحجم الحقيقي لكلّ فريق، لا أكثر ولا أقل. والاتصالات في هذا المجال على قدم وساق، وهناك رهان حقيقي على أنها ستنجح.
في الخلاصة، المسيحيون اليوم أقرب إلى بعضهم أكثر من أيّ يوم مضى. ومن «ميزات» زعاماتهم السياسية أنها لا تتقارب إلّا في الحالات التي تصبح فيها جميعاً في وضعية المستهدَف والمستضعَف. هذه الحالة مرّ بها زعماء المسيحيين خلال مرحلة الاستبعاد والنفي بعد «حروب الإخوة»، وبعد زوالها في 2005 عادوا إلى المناكفات.
ولكن، وفيما يتنازع المسيحيون سياسياً، هم يعيشون في تطبيع مذهبي كامل في ما بينهم، ولا أثر يُذكَر لفروقاتهم المذهبية في حياتهم اليومية.
وربما يصبح طرحُ باسيل «التوحيدي» تلقائياً إذا قامت وحدة بين الكنائس المشرقية، بدءاً بتوحيد مواعيد الفصح. فبطاركة الكنائس المشرقية قادرون على تحقيق هذا الهدف أكثر بكثير من «البطريرك» جبران باسيل!